لم يقل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كلمة صحيحة منذ بدء الانهيار المالي. وحدها عبارة أن «اللبنانيّين سيتعوّدون على الانهيار» تُسجّل له، حين يلامس الدولار 16 ألف ليرة، ويجري الكلام عن سعر صفيحة البنزين بـ 200 ألف ليرة، فيتعوّد اللبنانيون الأمرَين وما يلحقهما من تغيّرات تطاول أسعار المنتجات والمواد الغذائية. كل يوم نشهد فيه إذلال اللبنانيّين، يعطي لسلامة «الحق» بمسايرة «الطبقة» السياسية في كل ما تطلبه بالتكافل والتضامن مع الحاكم. من هنا، فإن معركة الاحتياط الإلزامي لا يبدو أنها ستنتهي قبل موعد الانتخابات النيابية، لأنها معركة الاستفادة منه بالتقسيط، كلما دعت الحاجة إليه، في الدواء وفي المحروقات وفي تأمين مرور الأشهر الفاصلة عن استحقاق 2022.ما يجري منذ أشهر، يعطي صورة واضحة عن الاحتياط المالي الذي يزال بمنزلة «الحديقة الخلفية» للطبقة الحاكمة، التي تمدّ يدها إليه قضمة قضمة، عندما تستشعر للحظات بسيطة أن الانفجار الشعبي سيحصل. وما تخشاه ليس ثورة الناس ضدّها، هذا أمر بات مفروغاً منه بأنه لن يحصل، بل انفجار الناس في وجه بعضهم بعضاً، على محطات المحروقات، مع أصحاب المولدات الكهربائية، مع أصحاب السوبرماركات، والمحال التجارية. وهذا الانفجار من مشاحنات وتضارب، «يؤذي» صورة البلد الذي تريد القوى السياسية التي تستعدّ للانتخابات، أن تروّج له للإفادة من أموال المغتربين في الصيف وعلى أبواب موسم انتخابي. الى هذا الحدّ تأتي تصريحات قادة الأحزاب نافرة في التعبير عن رغبتها في موسم الاصطياف للمغتربين والإفادة من الدولارات الطازجة. أليس غريباً أن يبادر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون فجأة، الى الاتصال بوزير الصحة حمد حسن المسافر الى تركيا، لتخفيف إجراءات المطار والزحمة فيه، بعدما وصلته شكاوى اغترابية تتذمّر من الإجراءات الصحية التي لم تعد موجودة في لبنان إلا في مطار بيروت. وأليس غريباً أيضاً أن اجتماعات بعبدا تحمل توقيتاً لافتاً، تارة في شأن الكهرباء وسلفة مؤقتة لتغذيتها، بعد ترويج حادّ عن احتمال انقطاع خدمات الكهرباء والإنترنت؛ ومن ثم للمحروقات، بعد أقل من شهر على الاجتماع الأخير، فيما البلد يحترق بنار الأسعار وفقدان الأدوية وتوقف المستشفيات والمختبرات، من دون أن يقوم رئيس الجمهورية بأي مبادرة؟
الاحتياط المالي يفترض أن يكون مال الناس، كما حال الذهب، الذي لا يوجد تأكيد واحد حقيقي على أنه لم يمسّ


وعلى إيقاع رفع الجهات الأمنية تقارير عن ارتفاع معدل الجرائم والسرقات والانتحار في شكل تصاعدي، أليس غريباً أن يحتمي رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب برؤساء الحكومات السابقين، فيصدر بياناً تلو الآخر رداً على مطالبته بتفعيل عمل الحكومة المستقيلة من أجل تسيير شؤون المواطنين؟ التيار الوطني الحر يرى أن رئيس الجمهورية ليس مسؤولاً «عن السلطة التنفيذية» في كل ما يجب أن يجري من إدارة يوميات الناس. لكن مسؤولية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المستقيلة والرئيس المكلف ومعهم جميع قيادات الصف الأول، ليست في «تبليع» اللبنانيين على مدى أسابيع ارتفاع سعر البنزين والدواء ورفع الدعم تدريجاً، حتى يتجرّع اللبنانيون سمّ الاهتراء رشفة رشفة، فيرتضون ارتفاع السعر من دون إثارة أي ضجة. مسؤولية هؤلاء، ومعهم بكركي التي احتضنت قبل يومين رئيس جمعية المصارف سليم صفير في احتفالية وقحة، هي أن الاحتياط المالي يفترض أن يكون مال الناس، كما حال الذهب، الذي لا يوجد تأكيد واحد حقيقي على أنه لم يمسّ. لأن خوف اقتصاديين وسياسيين لا يزال ينحصر في أن يصبح عنواناً مشابهاً لعنوان الاحتياط المالي، و«مشاعاً» تستعمله الطبقة الحاكمة، المالية والسياسية، للترويج لفكرة الحلول الموقتة خوفاً من الانهيار الكبير، على أمل إجراء الانتخابات وتغيير شكل المجلس النيابي في اتجاهات ترويجية غير واقعية. فأموال الناس وذهبهم باتت اليوم صندوق احتياط السياسيين تمهيداً لموسم الانتخابات، وهم الذين تعوّدوا منذ أن تسلّموا مراكز القيادة أن يهبهم الناس، (وللكنيسة)، الذهب والمال، كي يبقوا رؤساء أحزاب وقوى سياسية ومالية تمعن في نهب المال العام عادة، والخاص منذ سنتين الى اليوم. والناس الذين سيذهبون الى صناديق الاقتراع، يتحمّلون مسؤولية الاستهتار بما يجري، إلا إذا كانوا قادرين حقيقة على أن يدفعوا مليون ليرة على الأقل في الشهر ثمن أربع صفائح بنزين، ومعها مليون مماثلة ثمن فاتورة المولد عند رفع الدعم، ويعيشون من دون مستشفيات وأدوية. هم يتساوون، ربما، في المسؤولية مع السياسيين المطمئنين الى مستقبلهم، وبالأخص مستقبل أولادهم الذين لن يروهم مسافرين إلا للسياحة، وحكماً لن يروهم معلّقين على حبل مشنقة اليأس.