لم يتعب الرئيس نبيه بري من السياسة. قال قبل مدة إنه لا تقاعد في العمل السياسي، وإن المرء ما دام يتمتّع بقدرات جسدية وعقلية، فبمقدوره ممارسة العمل السياسي. وبري مثل كميل شمعون الذي قال ذات مرة إنه سيظلّ يعمل في السياسة حتى بعد موته بعشرين سنة. بري، هنا، يمثّل الصورة الأكثر وضوحاً عن القوى والشخصيات التي تستمتع بما تقوم به. كل انزعاج أو ضيق يظهر بين فترة وأخرى، لا يعني تعباً من اللعب مع الجميع. لكنه يعبّر أحياناً عن ضيق من لاعبين انضمّوا ويحتاجون الى وقت حتى يحصلوا على بطاقة العضوية في نادي الكبار.بهذا المعنى، يحجز بري لنفسه موقعه الدائم. وقد قال، بالمناسبة، لمن يهمّه الأمر إنه لا يزال مرشّحاً لتولي رئاسة المجلس النيابي لولاية جديدة. وهو، في هذه اللحظة، لا يقطع الطريق على طامحين، بل يريد أن يثبّت في عقول الآخرين، من أنصار أو حلفاء أو خصوم، أنه لا يرى مانعاً من البقاء في منصبه، وأن الذين ينظرون إليه على أنه دخل مرحلة التقاعد يتوهّمون أن تغييرات تفرض عليه الابتعاد طوعاً، ولا يجيدون قراءة الوقائع حتى يفترضوا أن بمقدورهم إبعاده عن موقعه ودوره قسراً. وفي كل الحالات، يقف بري وسط الساحة رافعاً سيفه الذي اعتاد حمله. بري لا يقدر اليوم على اختراع عضلات جديدة تتيح له حمل سيف أكثر وزناً وفعالية. ولا هو في مرحلة ابتداع آليات مختلفة لإدارة ما يرى أنه برنامجه. بري، اليوم، ينظر بجدية واهتمام الى ما يجري في ملف تأليف الحكومة بطريقة ليست موجودة لدى جميع أقرانه أو حلفائه من الحلف السياسي الذي جاءت به التسوية السورية ــــ السعودية ــــ الأميركية وثبّتت قواعده في حكم لبنان طوال 15 عاماً، ثم أدخلت عليه تعديلات لـ 15 عاماً أخرى. وبعد ثلاثين عاماً من تولّي المسؤولية الكاملة، لا يزال الرئيس بري يرى أن بإمكانه الاستمرار.
وهو يقف على رأس حلف أساسه قوى «الإسلام السياسي»، بالمعنى اللبناني للتعبير. لديه حليف تاريخي اسمه وليد جنبلاط. تقاتلا وتخاصما وتحابّا وتفاهما وتعاتبا، لكنهما أكثر سياسيين لبنانيين يفهم كل منهما الآخر. ولديه تركة حليف آخر اسمه رفيق الحريري، رحل في لحظة غير محسوبة، فأسندت مسؤوليته الى ابنه سعد الذي كان بري يتعب في الحوار معه قبل 15 عاماً، لكنه صار يفهم عليه ويقدر على إفهامه أكثر بعد 15 عاماً. وسعد يمثّل الضلع الثالث في تحالف قامت عليه جمهورية اتفاق الطائف، أو النسخة الإسلامية من النظام الطائفي الذي قام لأول مرة في عام 1943 بأرجحيّة مسيحية. وبري، كما الحريري وجنبلاط، يعرفون طرق التعايش مع التطورات الجارية من حولهم. لكنهم غير مستعدين لتنازلات تجعلهم في موقع مساوٍ للآخرين. وهذا هو جوهر المشكلة التي يعيشها النظام اللبناني منذ ما بعد 7 أيار 2008، يوم ارتكب الأميركيون خطأً جوهرياً جعل المقاومة في لبنان تدخل تعديلات على آلية الحكم في لبنان، وتُدخل الثلث الضامن مادة حاكمة لنظام الحكم ولو لم تُكتب في الدستور. والثلث الضامن، استخدمته المقاومة ليس لحماية مصالحها من مؤامرات عملاء الغرب وعربهم في لبنان، بل لتعزيز موقع الحليف المسيحي الأبرز، ميشال عون، في مؤسسة الحكم. كان الثلث الضامن بمثابة تعويض ضروري للرئيس عون عن إبعاده عن موقع المسؤولية الأول بعد فوزه الساحق في انتخابات عام 2005. وكان الثلث الضامن ورقة القوة التي يمسك بها عون في وجه التحالف الضمني الذي يجمع بري والحريري وجنبلاط وآخرين. وليس سراً أن حزب الله لم يمانع أن يمتلك عون حق الفيتو بواسطة هذا الثلث في مواجهة من لا يريد حزب الله مواجهتهم مباشرة.
يرفض التحالف الثلاثي الاعتراف بعون شريكاً كامل المواصفات ورهانهم في المعركة على حياد حزب الله


المعركة على طريقة إدارة السلطة هي ما يحصل الآن. وكل ما جرى منذ انتخاب عون رئيساً للجمهورية، هو رفع حلف التسعينيات من سقف المواجهة. الأمر هنا لا يتعلّق بأن عون يريد نسف النظام، أو أن جبران باسيل يقود عملية إصلاحية تستهدف إعادة تركيب الدولة بطريقة مختلفة. بل المشكلة تكمن، أساساً، في كون حلف التسعينيات لم يقبل فكرة أن يدخل عون نادي السلطة شريكاً بكامل المواصفات. بهذا المعنى، ربما كان حزب الله الوحيد الذي أعاد «الوديعة» المسيحية الى عون، من التمثيل النيابي في جزين وبيروت والبقاع الشمالي، ثم دعم أحقية وصوله الى رئاسة الجمهورية باعتباره الأكثر تمثيلاً عند المسيحيين. وإذا كان حزب الله لا يشعر بقلق من عودة هذه الوديعة الى أصحابها، فإن الأمر ليس على هذا النحو مع حلف التسعينيات. جنبلاط يتصرّف على أن المقاعد النيابية المسيحية التي أخذها العونيون في بعبدا وعاليه والشوف انتزعت منه. لذلك كان شديد الصراحة عندما اعتبر عون كميل شمعون آخر. وهو كان يريد بقاء الأمور على حالها. وقد نجحت خطّته في منع عودة شعبية مسيحية كبيرة الى مناطق سيطرته، وكان مرتاحاً الى القيادات المسيحية التي ارتضت العمل تحت عباءته منذ تسعينيات القرن الماضي. بالنسبة إلى جنبلاط، المسيحيون يجب أن يكونوا مثل نعمة طعمة لا أكثر. أما الحريري، الذي يتصرّف على أنه رئيس تيار وطني متنوّع، فيتذاكى على بقية الناس، مصدّقاً كذبة والده بأنه قائد تيار عابر للطوائف والمناطق. لذلك، يتصرّف على أن المقاعد المسيحية التي تقع ضمن «ولايته» (ذات الغالبية السنية) هي ملكه، وأن على المسيحيين فيها أن يختاروا من بين الذين يرشّحهم هو لهم. ومشكلته مع عون أساساً تكمن في كون الأخير جاء ليقول له: أنا ألعب مثلك ومثل بقية الزعامات الطائفية، وهذه المقاعد تخصّني ولا تخصّك! لكن مشكلة الحريري أكبر من مشكلة جنبلاط، كونها تنتقل الى القطاعات الفعّالة في الحكومة والمصارف وعالم المال ورجال الأعمال. والحريري هنا مصدوم من كون المرجعيات الدينية التي استوعبها والده، أو حيّدها هو بالتعاون مع السعودية والفرنسيين والأميركيين (من بكركي الى الفرع اللبناني من الكنيسة الأرثوذكسية بقيادة إلياس عودة) لا تساعده على رفع الحُرم في وجه عون، علماً بأن القيادات التاريخية في الكنيستين المارونية والأرثوذكسية لم تقف يوماً إلى جانب عون.
على أن الطرف الأقوى في هذا الحلف بقي معانداً هو أيضاً لفكرة أن يكون عون شريكاً كامل المواصفات. فكرة أن تكون لبري وصاية مباشرة على مقاعد نيابية مسيحية في الزهراني وجزين ومرجعيون والبقاع الغربي وبيروت، قائمة على أساس أن موقعه في رئاسة المجلس النيابي من جهة، ونفوذه الكبير في مؤسسات الدولة التنفيذية من جهة أخرى، يمنحانه الحق في أن يكون شريكاً في اختيار هؤلاء. ربما كان هذا الأمر صحيحاً لو أن برّي يقبل أن يكون حزب الله شريكاً بالتساوي الحقيقي معه في الحصة الشيعية، أو أن يقبل منافسة لا شراكة عون في الحصة الشيعية نفسها. وبري، أجاد مرات كثيرة في مقايضة الحريري الأب والابن في مبادلة مقاعد شيعية بحصص أخرى على مستوى النفوذ داخل الدولة.
بهذا المعنى، يمكن فهم الموقف الجذري لحلف التسعينيات اليوم. هم لا يخشون انقلاباً على النظام يقوده ميشال عون، بل يرفضون أن يكون شريكاً مستقلاً في إدارة الدولة. وإذا كان عون يرى ضرورة مراجعة كيفية إدارة الدولة خلال 15 عاماً، فإن الحلف المتجذّر يعتبره شريكاً في حكم 15 عاماً أخرى. لكن الحقيقة أن هذا الحلف، الذي انضمّ إليه مباشرةً أو بنحوٍ غير مباشرة خصوم عون من المسيحيين على وجه التحديد، لا يريد لهذه الشراكة أن تكون. وهذا ما يجعلهم يدافعون عن فكرة الحريري حول طريقة تأليف الحكومة. وهم لا يتّكلون فقط على قدراتهم من أجل خوض المواجهة، بل يستندون أساساً الى كون حزب الله القوة الفاصلة في أي معركة جدية، لا يزال ممتنعاً عن خوض المعركة طرفاً إلى جانب هذا أو ذاك!
غداً: بدائل فرديّة على شكل جماعات