قبل الأزمة الاقتصادية، كان أكثر من نصف الشباب اللبنانيين العاطلين من العمل يبحثون عن عمل منذ أكثر من عام، وفق مُنظّمة العمل الدولية، وكانت معدلات البطالة بين الشباب تبلغ ضعف معدلاتها بين البالغين. المديرة الإقليمية للدول العربية في منظمة العمل الدولية ربا جرادات حذّرت من الآثار البعيدة للبطالة على الشباب، وهي الفئة التي تكون غالباً أول من يتعرّض للصرف، وآخر من يعود الى العمل بعد التعافي. ولفتت الى أن ارتفاع معدلات البطالة غالباً ما ينتج «تنافساً سلبياً» بين العاملات والعمال على القبول بشروط وظروف عمل أقلّ من الحد الأدنى الذي أقرّه القانون. أما «المبادرات الفردية» المعتمدة على المهارات فـ«ليست تنويعاً للاقتصاد، بل مجرد محاولات يائسة للصمود». في ما يلي نص المقابلة:
المديرة الإقليمية للدول العربية في منظمة العمل الدولية ربا جرادات (مروان بو حيدر)

ما هي فئات العمّال الأكثر تضرّراً جرّاء الأزمة؟
عموماً، كان العاملون في الاقتصاد غير المنظّم يشكّلون 55% من إجمالي العاملين قبل الأزمة، وهؤلاء من أكثر الفئات تأثراً لأنهم لا يستفيدون من الحماية التي يوفرها قانون العمل، ولا يحصلون على تقديمات اجتماعية كالإجازات المرضية والضمان الاجتماعي. هذا جعلهم أكثر عرضة للصرف التعسفي ولظروف عمل غير آمنة ومن دون تغطية طبية.
العاملون الشباب، أيضاً، تضرّروا بشدة. فمنذ ما قبل الأزمة، كان معدل البطالة بين هؤلاء يبلغ ضعف معدل بطالة البالغين، وكان أكثر من نصف الشباب العاطلين من العمل يبحثون عن عمل منذ أكثر من عام. على الأرجح أن هذه الأرقام شهدت زيادة كبيرة. ففي أزمات كهذه، يكون الشباب غالباً أول من يتعرض للصرف بسبب انخفاض مستوى خبراتهم. وللسبب نفسه أيضاً، يواجهون، بعد بداية التعافي، صعوبة أكبر في إيجاد عمل لأنهم يتنافسون مع مجموعة كبيرة من العاطلين من العمل الأكبر سناً والأكثر خبرة. ويخلّف ذلك آثاراً طويلة الأمد، فقد ثبت أن فترات البطالة الطويلة لدى الشباب تخلّف أثراً سلبياً على مسيرتهم المهنية.
كما تأثرت النساء بشكل غير متناسب. إذ يشكّلن أكثر من 60% من العاملين في قطاعَي الصحة والعمل الاجتماعي، ما وضعهنّ في الخطوط الأمامية في مواجهة «كوفيد-19»، مع معاناتهنّ من انخفاض القوة الشرائية لأجورهنّ. كما زادت تدابير الإغلاق العام عبء العمل المنزلي عليهنّ.
العمال المهاجرون واللاجئون، الذين عانوا دائماً من التهميش وغياب الحماية الاجتماعية وظروف عمل غير مستقرة، تأثّروا أكثر من غيرهم بسبب الصرف وتراجع قيمة الأجور وقلّة البدائل. ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، دفع أسراً كثيرة الى خفض أجور عاملات المنازل المهاجرات أو التفاوض معهنّ على أجور جديدة أو إنهاء عقود عملهنّ من طرف واحد. ووجدت كثيرات من هؤلاء أنفسهنّ من دون عمل أو سكن أو أيّ وسيلة للعودة إلى بلدانهنّ.
- أيّ القطاعات الأكثر تضرراً؟
تسببت هذه الأزمة في ضرر شمل كل القطاعات من دون استثناء، بدرجة أو بأخرى. لكننا حددنا ستة قطاعات مرتفعة الخطورة، كانت قبل الأزمة تشغّل 820 ألفاً، وكانت خسارة الوظائف فيها الأعلى مقارنة بغيرها، وهي: الفنادق والمطاعم، الصناعة التحويلية، البناء، تجارة الجملة والتجزئة، العقارات والتجارة، والفنون والترفيه.
- يواجه من تبقّى من العمّال التعرض للاستغلال مع تضاعف حاجتهم إلى العمل. ما تداعيات ذلك

على العمال وسوق العمل؟
كل العاملات والعمال في لبنان يعانون من تحديات كبيرة بسبب غياب ظروف العمل اللائق. توسّع العمل في الاقتصاد غير النظامي في القطاعين العام والخاص، في غياب الحماية الاجتماعية الشاملة، وضعف إنفاذ قانون العمل وعدم تطابقه مع معايير العمل الدولية، إضافة الى غياب سياسات متوافق عليها للتشغيل والأجور وضعف مؤسسات الحوار الاجتماعي وانعدام المفاوضة الجماعية بين أطراف الإنتاج ــــ كلها ساهمت في تعميق هذه المعاناة، علماً بأن هذه الأسباب سابقة للأزمة المالية والاقتصادية الحادة التي يشهدها لبنان حالياً. للأسف، عمقت الظروف الجيوسياسية المعاكسة في المنطقة وما نجم عنها من نزوح، فضلاً عن تفشي جائحة الكورونا وما رافقها من انكماش اقتصادي من معاناة العمال، وأدت إلى ما نشهده اليوم من تردّ في أوضاعهم المعيشية.
وطبيعة الأزمة المركبة التي يواجهها المجتمع اللبناني حالياً، زادت من حالات الإقفال النهائي للمؤسسات، وأدت إلى تراجع مخيف في ظروف العمل اللائق في تلك التي استمرت بالعمل. وارتفاع معدلات البطالة في ظل غياب أي حماية ــــ كالتأمين ضد البطالة مثلاً ــــ ينتج تنافساً سلبياً بين العاملات والعمال لجهة القبول بشروط وظروف عمل أقل من الحد الأدنى الذي أقرّه القانون، كما يدفع بقسم كبير منهم، وبالأخص العمالة الماهرة، إلى البحث عن فرص عمل لائقة خارج البلاد، أو قد يضطرّ البعض منهم إلى البقاء فترة طويلة في صفوف المعطّلين عن العمل.
المستويات العالية من البطالة والعمالة الناقصة والمستويات المتدنّية من القدرة على تأمين الدخل تزيد من نسب التفاوت الاجتماعي والفقر، وتؤدي إلى توسع أكبر في عمل الأطفال، وتسهم في اختلال علاقات العمل، وبالتالي إضعاف قدرة مؤسسات سوق العمل، وهي من العوامل الأساسيّة التي تزيد من انعدام الاستقرار الاجتماعي الذي قد يهدد ويعيق قدرة الدولة اللبنانية على تحقيق تطلّعات جميع مواطنيها بالتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.

ما هو تقييمكم للأعمال «المُستحدثة» بفعل الأزمة (العودة إلى أعمال الخياطة والصناعات اليدوية الصغيرة وانتشار البسطات وغيرها)؟
أجبرت الأزمة كثيرين على إيجاد طرق جديدة للصمود. وبسبب نقص فرص العمل، اتخذ كثيرون خطوات فعلية وحاولوا استخدام كل ما لديهم من مهارات وموارد لكسب الدخل. هاجسنا الرئيسي في منظمة العمل الدولية هو نوعية تلك الأعمال. فمن الضروري أن نتذكّر أن هذه الخطوات اتخذت بدافع اليأس، وأن معظم هذه الوظائف متدنّية الأجور، ولا تقدّم أي ضمان اجتماعي. وأغلبها بالتأكيد ليست «شركات». ومع أنها قد تبدو مبادرات ريادية جديدة، فإن معظمها مجرد أعمال غير مستقرة في القطاع غير المنظم، وهي الخيار المتوفر في ظل غياب فرص العمل في القطاع المنظّم في مكان آخر.
ما نشهده من «مبادرات» فرديّة ليس تنويعاً للاقتصاد، بل محاولات يائسة من أشخاص يحاولون الصمود


الى ذلك، قد يكون هذا الاتجاه مؤشراً على وجود مشكلة أكبر. فلجوء أشخاص يمتلكون مهارات أو تعليماً عالياً إلى أعمال منخفضة الإنتاجية أو لا تستغل إمكانياتهم ومعارفهم بشكل كامل يعني خسارة صافية للاقتصاد والبلد. لا يجوز وضع مهارات يتطلب اكتسابها وصقلها سنوات طويلة جانباً لتأمين لقمة العيش. ففي نهاية المطاف، يتطلب إنعاش الاقتصاد استغلال إمكانيات السكان بشكل كامل، وليس أن يعمل ذوو المهارات في أعمال ضعيفة الإنتاجية وغير مستقرة في القطاع غير المنظّم. ما نشهده اليوم ليس تنويعاً للاقتصاد يمكن الاعتماد عليه لتحديد معالم «الاقتصاد اللبناني الجديد»، بل محاولات يائسة من أشخاص يحاولون الصمود في بلد يعدّ فيه التضخم الشديد والبطالة تهديداً حقيقياً وخطيراً. بالطبع، لا نقبل تصنيف الأعمال كـ«وضيعة» أو «رفيعة المستوى». لكن ما يهمُّنا هو عدم اعتبار هذه الاستراتيجيات البائسة للتأقلم قطاعات اقتصادية جديدة، لأن ذلك يخفي مستويات عالية من تدنّي الاستفادة من العاملين والتدهور العام في جودة العمل.

هل ستكون للأزمة تأثيرات على العمال في المدى البعيد؟ ما هي آليات ضمان انتقال اقتصادي عادل؟
شكلت الأزمة رسالة تحذير واضحة بضرورة تطبيق أنظمة حماية اجتماعية شاملة للجميع. وأبرزت الجائحة أهمية نظام الضمان الاجتماعي في أوقات الأزمات، وكيف أن العمال في القطاع غير المنظم أكثر عرضةً للتسريح التعسفي، وخفض الأجور، والحرمان من ظروف عمل آمنة.
وحتى قبل الأزمة، كان نظام الحماية الاجتماعية في لبنان يعاني من فجوات كبيرة من حيث تغطيته القانونية وفعاليته، ومن نقص دائم في التمويل. فهذا النظام القائم على الاشتراكات لا يغطي إلا العاملين في القطاع غير المنظم، ويقدم مزايا محدودة في حالات الطوارئ الأساسية خلال حياة العاملين، في ظل تأخر كبير في إصلاحات ملحّة لتقديم معاشات شيخوخة دورية، وتأمينات ضد الإصابات أو البطالة. كما أن لبنان هو من بين أقل دول المنطقة استثماراً في الحماية الاجتماعية غير القائمة على الاشتراكات للفئات الهشة. فمثلاً، لا يقدم لبنان تقريباً أي ضمانات ممولة من الضرائب لضمان أمن الدخل الأساسي للأطفال أو ذوي الإعاقة أو المسنّين. أضف الى ذلك أن التوقف المزمع عن دعم الأسعار سيفاقم انعدام الأمن للفقراء والقريبين من خط الفقر والطبقة الوسطى. ومن الضروري إدراك أن مثل هذه الخطوة ستكون بمثابة الهرولة نحو الهاوية من دون مظلة إنقاذ، وستتسبب في كارثة اجتماعية على الفئات الهشّة، وتدمّر عافيتها وعافية البلد لسنوات عديدة. الاستثمار الحاسم في الحماية الاجتماعية ليس ضرورياً لكبح الزيادة الكبيرة في نسبة الفقر واللامساواة فحسب، بل أيضاً لتشجيع تحول اقتصادي أكثر إنصافاً، والحفاظ على التماسك الاجتماعي. يجب أن تكون تدابير الاستجابة قصيرة الأجل كشبكة الأمان الاجتماعي الطارئة المعلن عنها مصحوبة بخطط لبناء نظام حماية اجتماعية متعدد المستويات للجميع، ووضع أسس لأرضية حماية اجتماعية دائمة.

ما هي نتائج فقدان رواتب الموظفين في القطاع العام «قيمتها» مع تدهور سعر الصرف؟
موقف منظمة العمل الدولية من العمل المتدني الأجر واضح. فأجندة العمل اللائق في المنظمة تؤكد على ضرورة توفير دخل منصف في كل القطاعات والوظائف. وبعد الانخفاض في قيمة الليرة، تعدّ مستويات الأجور التي بقيت كما قبل الأزمة، غير كافية حتى لتلبية أبسط الاحتياجات الأساسية. وينطبق هذا على موظفي القطاعين العام والخاص.
عادة، يؤدي تدني الأجور إلى وقوع الأشخاص في شرك الفقر، ويقلل فرص ارتقائهم الاجتماعي، ويجبرهم على العودة إلى استراتيجيات تأقلم مؤذية مثل خفض نسب الالتحاق بالمدارس أو اللجوء إلى عمل الأطفال الذي يخلّف آثاراً طويلة الأمد على التنمية الاجتماعية. كما أن تدنّي الأجور الذي يؤثر على قطاعات كبيرة من اليد العاملة يؤدي حتماً إلى انخفاض الطلب المحلي، وهذا يزيد تعقيد التعافي الاقتصادي.
لذلك، يعدّ التشغيل في القطاع العام في لبنان مسألة معقدة. ولطالما تعرّض لبنان لانتقادات بسبب غموض عملية التوظيف في القطاع العام وعدم كفاءتها. ومن شبه المؤكد في هذه المرحلة أن التشغيل في القطاع العام سيشكل جزءاً جوهرياً من جهود الإصلاح. لذا، نأمل أن تنجح الأطراف المعنية، وهي في لبنان الدولة وموظفو القطاع العام، في إدارة هذه القضية المهمة بطريقة تضمن سلامة المؤسسات العامة التي ستؤدي دوراً حاسماً في إخراج البلد من أزماته الحالية.

كيف تصفون الواقع العمالي الحالي في لبنان؟
عادة ما يعكس الوضع العمالي الواقع الفعلي للدولة والمجتمع. وليس سراً أن الواقع العمالي في لبنان ليس بخير منذ ما قبل الأزمة الحالية، وخصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار صغر سوق العمل اللبناني والتشوهات البنيوية القائمة فيه؛ لجهة غلبة قطاع الخدمات وحجم العمل غير النظامي ونسبة المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر، وكذلك محدودية الحماية الاجتماعية للعمال، وضعف الإطار القانوني الناظم لعلاقات العمل، وبالأخص عدم احترام المبادئ والحقوق الأساسية في العمل بما في ذلك حق التنظيم والمفاوضة الجماعية. هذه الأسباب، مع أسباب أخرى، أدت إلى شلل كبير في قدرة الحركة النقابية على تطوير قدراتها عبر توسيع تمثيليّتها لتضمّ إلى صفوفها فئات من العمال لا تزال محرومة من حقوقها النقابية (كالعمال المهاجرين والموظفين في القطاع العام مثلاً) بما يمكنها من تحقيق العدالة الاجتماعية والعمل اللائق.
وقد أتت الأزمة الاقتصادية والمالية والسياسية والصحية الحالية لتفاقم من تردي أوضاع العمال، وبيّنت بوضوح نقاط العجز في النموذج التنموي والاقتصادي القائم، والتي يجب العمل على معالجتها بسرعة عبر تبني سياسات تستهدف دعم انتعاش قوي وواسع القاعدة يركز على فرص العمل والدخل وحقوق العمال والحوار الاجتماعي، وسياسات محورها الإنسان تستهدف الفئات الأشد تضرراً: كالنساء والشباب والعاملين ذوي المهارات الضعيفة والأجور المتدنية والعمال المهاجرين واللاجئين. لذلك، تعمل المنظمة مع أطراف الإنتاج الثلاثة في لبنان من أجل اتباع سياسة ملائمة للاقتصاد الكلي لدعم الدخل والاستثمارات تبعاً للموارد المتوفرة والممكنة وبالأخص سياسة تشغيل وطنية، وإصلاح تشريعات العمل لتتوافق مع معايير العمل الدولية، وتطوير منظومة الحماية الاجتماعية وضمان دعم الفئات الأشد تضرراً (خصوصاً الشباب والنساء والعمال ذوي الأجور والمهارات المتدنية) في إيجاد وظائف لائقة وعدم تعرضهم لأي آثار على المدى الطويل، وتحقيق توازن بين احتياجات شتى القطاعات مع اتخاذ تدابير فعالة في مجال السياسة العامة دعماً للمنشآت (ولا سيما الشركات الصغيرة) ولعمليات انتقال العمال إلى سوق العمل، وتنفيذ استراتيجيات للانتعاش تستند إلى الحوار الاجتماعي وتعزّز التحوّل إلى عالم عمل شامل ومرن ومستدام.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا