ماذا بعد الانهيار الكبير؟ وكيف نخطّط للبناء من جديد؟ وعلى أي أسس؟هذه الأسئلة التي تأخر طرحها كثيراً، يفترض أن تكون الشغل الشاغل لمن سيتبقى من اللبنانيين في لبنان. وهي ليست خلاصة انهيار سياسي واقتصادي ومالي فقط، بل بعد انهيار شامل أعادنا إلى ما دون الصفر، الأخطر فيه انهيار المنظومات البيئية التي تُعتبر صمام الأمان للعيش.
اليوم، أكثر من أي يوم مضى، ظهرت علّة إدارة شؤون البيئة عندنا. كانت الشكوك القوية حول «الكيلة التي بقيت في الطاحون» حاضرة كلما تغير وزير للبيئة، وكلما تواصل الانهيار في طريقة الإدارة، حتى وصول الوزير دميانوس قطار مرغماً، إذ كان يطمح إلى حقيبة أخرى، علماً أن لا ذنب للبيئة في ذلك! ولأنه لم يكن يريد هذه «الحقيبة» التي تحوّلت مع مثل هؤلاء إلى حقيبة سفر، أعاد تسليم معظم ملفات الوزارة إلى مدير عام كانت غالبية الوزراء السابقين قد عزلته، بسبب خلافه مع معظم العاملين في الوزارة وصداقاته مع معظم الملوّثين! حتى تحوّلت الوزارة إلى مغارة أشبه بمغارة المرفأ الذي انفجر بلبنان.
ظهرت هذه النتيجة جلية في كل الملفات، من إدارة ملف النفايات الذي سينفجر من جديد قريباً (على إفلاس)، إلى ملف المقالع والكسارات وشركات الترابة (المدمن على الصفقات والفوضى)، وملفات أخرى كثيرة (كتلوث الهواء والتربة والماء) لا تحوز اهتماماً إلا في حال كانت موضوع أجندات تمويل خارجية أو لابتزاز المستثمرين بدراسات للأثر البيئي من شركات استشارية معينة!
وإلى هذه الملفات، أضيف أخيراً ملف الآثار البيئية لانفجار المرفأ، والذي كان محور اجتماع للجنة البيئة النيابية، الخميس الماضي. وكانت المفاجأة في تمثّل وزارة البيئة بالمدير العام برج هتجيان الذي برّر غياب الوزير بـ«السفر لأسباب شخصية»، وفي امتناع وزير البيئة بالوكالة عن الحضور بذريعة عدم متابعته للملف. الذين وجهوا أسئلتهم إلى المدير العام وانتقدوا الغياب المدوّي للوزارة عن هذه الكارثة، وعدم إعلانها نتائج فحص العينات، وفشلها في إدارة الردميات، وامتناعها عن توجيه المتدخلين من منظمات دولية ومحلية في كيفية التعاطي مع الآثار البيئية لكارثة كهذه! وقد بدت الصدمة واضحة عليهم حين أجاب هتجيان بأن معالجة مادة الـ«أسبستوس» الموجودة في الردميات ليست من اختصاص وزارة البيئة بل من اختصاص وزارة الصحة لأن أثرها صحي وليس بيئياً! علماً أن الاترنيت الذي يحتوي على هذه المادة والموجود في المباني القديمة التي دُمّرت في الانفجار، تحول إلى نفايات خطرة اختلطت مع الردميات، ما يجعل ذلك في صلب مهام وزارة البيئة. المفاجأة الثانية حين قال هتجيان إنه يعرف أي نوع من الكمامات كان يفترض وضعه لتحاشي التلوث وغبار الـ«أسبستوس»، كـ«معلومات شخصية» وليس بوصفه مديراً عاماً، لأن ذلك «ليس من اختصاص الوزارة»! ما دفع البعض إلى التساؤل عما إذا كان هتجيان خبيراً أجنبياً أم مديراً عاماً يتقاضى راتبه للتنسيق مع مديري الوزارات الأخرى التي تتقاطع مع البيئة!
ولم يتطرق المدير العام إلى نتائج التقرير الذي كُلّف بإعداده حول الآثار البيئية للانفجار، ولا حول حجم النفايات المصنفة خطرة ونوعها في المرفأ وبين الأماكن السكنية، مكتفياً بالإشارة إلى أنه باتت هناك 57 حاوية للترحيل على المرفأ، وليس 52 فقط، متنصلاً من الجواب عن سبب اختيار شركة ألمانية لهذه المهمة! كما لم يقدم كشفاً حول نوعية هذه المواد المجمعة منذ وقت طويل، وكيف تم استيرادها ولمصلحة من وما هو سبب بقائها… وأين الثغرات القانونية والإجرائية لتحاشي تحولها إلى نفايات في المستقبل والتسبب بكوارث أخرى! علماً أن وزارة البيئة أصدرت قراراً عام 1996 لتنظيم استيراد النفايات (عدل عام 1997)، يحدد ما لا يسمح باستيراده، ويضع شروطاً على أصناف أخرى يسمح باستيرادها. فهل قيّمت وزارة البيئة هذه القرارات وما إذا كان هناك من ضرورة لتحديثها وتطويرها وإضافة مواد وإجراءات جديدة إليها؟ وما هو تقييم وزارة البيئة للإجراءات التي تتخذها إدارة المرفأ أو الجمارك أو أي إدارة أخرى؟ وما الذي يقترح تعديله بعد هذه التجربة؟ فالمعلومات تشير، مثلاً، إلى أن بعض المواد التي تُصنّف نفايات خطرة على المرفأ، كانت قد دخلت كمواد تصنيع وأفلس مستوردوها وتركوها. لذلك يفترض اقتراح حلول لمثل هذه الحالات لتجنب الوصول مستقبلاً إلى ما وصلنا اليه، كدفع كفالات مالية مسبقة على بعض المواد على سبيل المثال، إضافة إلى كفالة الجهة التي يتم الاستيراد منها أو تلك التي تتطلب موافقة وزارة البيئة في بلد المنشأ… ناهيك عن ضرورة مراجعة المرسوم رقم 5606 المتعلق بتحديد أصول إدارة النفايات الخطرة، والذي جاء بعد ربع قرن من إقرار لبنان قانوناً يجيز للحكومة إبرام اتفاقية بازل التي تُعنى بالتحكم في حركة النفايات الخطرة عبر الحدود والتخلص منها بشكل آمن (القانون رقم 378 بتاريخ 14/11/1994)، والذي جاء بعد إدخال كمية كبيرة من النفايات الخطرة بشكل غير شرعي إلى لبنان أثناء الحرب الأهلية!
فما هو تقييم لجنة البيئة النيابية لأداء الإدارة في وزارة البيئة في التعامل مع ملفات على هذا القدر من الخطورة؟
قضية النفايات الخطرة تفتح على قضايا أخرى ناجمة عن سوء الإدارة. وهي تصب في معظمها في معضلة باتت تاريخية في وزارة البيئة (وغيرها من الوزارات) تتمثل بغياب الرؤية الاستراتيجية. فلو كانت هناك استراتيجية شاملة للبيئة أو للتنمية المستدامة لكان موضوع النفايات على أنواعها قد اندرج ضمنها منذ زمن بعيد وكانت استندت إلى تصنيفات واضحة لجميع أنواع النفايات، مع اقتراح آليات معالجة لكل منها. بالإضافة إلى تطبيق مبادئ الاحتراس أو التخفيف أو الاسترداد، والتي تصب في خانة تجنّب حصول المشكلة قبل وقوعها. أو بإيجاد آلية لردّ الكثير من المواد التي تُصنّف خطرة بعد أن تتحول إلى نفايات، والتي يمكن أن يتم التعامل معها وفق نظام الاسترداد، كأن يتحمل المستورد أو الوكيل مسؤولية ردها إلى بلد المصدر أو إلى المصنّع، فتعود من حيث أتت.
في محصلة الاجتماع، لم يستطِع النواب أخذ فكرة دقيقة حول ما حصل، تمهيداً لطلب ضم ملف هذه النفايات والردميات إلى ملف الدعوى القضائية، طالما أن هناك إهمالاً ما أو نقصاً في التشريع والإجراءات... لم يتم الإبلاغ عنه تاريخياً.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا