مشاهد بالجملة غير مألوفة حصلت أمس أمام شركة مكتّف لشحن الدولار: المدّعية العامّة في جبل لبنان، القاضية غادة عون، تتحدّى قرار مجلس القضاء الأعلى وتنتظر عند البوابة الخارجية في محاولة لمنعها من دخول المكاتب لإكمال استحصالها على الملفات المالية للشركة. ساعات من الانتظار أنهاها مناصروها بخلع البوابة المؤدّية إلى الباحة الخارجيّة. حدّادون بطلبٍ من «الريّسة» عمدوا الى خلع البوابة الرئيسيّة للمكاتب وكسرها، بالإضافة إلى المكتب الذي يحتوي على الملفّات. عون تدخل إلى المكتب من دون عناصر من الضابطة العدليّة، باستثناء مرافقَيها الشخصيَّين اللذين حملا الحواسيب والمستندات الموضّبة بأكياس نايلون ووضعاها في صندوق سيارة «الريّسة».القوة الضاربة في فرع المعلومات توجّهت إلى عوكر، وهاجمت مناصري عون وأوقعت 3 جرحى.
كل ما حصل، أمس، يؤكّد أنّ هيبة القضاء تتلاشى، وأن «الريّسة» تخوض وحيدةً حرباً من أجل «حقوق الناس»، وفق ما قالت. هي التي أصرّت على الدخول إلى الشركة برغم التهديدات المبطّنة التي تلقّتها عبر الهاتف، والعوائق التي حاول مالكو الشركة وضعها في طريقها، علّهم يثنون عون عن قرارها.
في البداية، حاول مالكو شركة مكتّف افتعال إشكالٍ، ثم اتصل القاضي غسان عويدات بعون طالباً منها تسليم الملف بأسرع وقت ممكن إلى المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي سامر ليشع، لتردّ عون: «خلّيه يحكيني».
أكملت عون بحثها في كومة قشّ عن المستندات التي تدين «مهرّبي الدولار» بمساعدة 4 خبراء (خبيرا محاسبة وخبيران في الشؤون التقنيّة)، برغم تذرّع المسؤولين عن الشركة بأن مسؤولة القسم التقني غير قادرة على الحضور شخصياً ولا حتّى تقديم المساعدة عبر الهاتف، فما كان من المدعية العامّة في جبل لبنان إلّا أن قامت بفك الحواسيب ومصادرتها بسيارتها الشخصيّة، وغادرت المكان بعد أكثر من 4 ساعات من البحث المستمر.
كشفت الوثائق التي وضعت عون يدها عليها أنّ الأموال هُرّبت بغالبيتها إلى مصارف في سويسرا


هكذا ظنّ البعض أنّ الموضوع انتهى، إلّا أن بحوزة عون ما هو أكثر من ذلك، إذ إنّ إصرارها على الدخول إلى مكاتب الشركة أمس كان استكمالاً للتحقيقات التي أجرتها مع شركة «سكاب» المتخصّصة بنقل الأموال داخلياً. وتُشير المعلومات إلى أنّ الشركة المذكورة تعاونت إلى أقصى الحدود مع عون وسلّمتها مستندات تفيد بأن الشركة نقلت إلى شركة مكتف أكثر من 9 مليارات دولار بين عامَي 2019 و2021. وتعود هذه الأموال إلى 5 مصارف، فيما الحصة الأكبر فيها هي لمصرف «سوسيتيه جنرال».
وكشفت الوثائق التي وضعت عون يدها عليها أنّ الأموال هُرّبت بغالبيتها إلى مصارف في سويسرا، وتحديداً في زيوريخ، والبعض الآخر إلى مصارف في قبرص.
واللافت أنّ المستندات التي حصلت عليها عون أمس تشير إلى أنّ شركة مكتّف لا تزال تحوّل الأموال إلى الخارج، إذ إنّها حوّلت بضعة ملايين دولار في الأسابيع الماضية.
إذاً، في جعبة «الريّسة» ما يُدين «حزب المصرف» بالأسماء والأدلة. فذهابها إلى أبعد من ذلك يكشف المسؤولين الفعليين عن ضرب الليرة وارتفاع سعر صرف الدولار. هي تعلم أن إرسال الأموال إلى الخارج ليس جُرماً يُحاسب عليه القانون، لكنها تدرك أيضاً أنّ بإمكانها الادّعاء على المصارف وشركات نقل الأموال بجرم تحقيق الأرباح غير المشروعة، استناداً إلى معلومات وصلت إلى هذه المصارف ولم تصل إلى باقي المواطنين، عن قرب انهيار سعر الصرف، ما سمح للمصارف بنقل أموالها إلى أماكن آمنة في الخارج، قبل انهيار الليرة. وبناءً على هذه الوقائع، يُصبح تحويل الأموال في نظر القانون تهريباً أدى إلى تسريع الانهيار.
بذلك، تبدو منطقية كلّ المحاولات الجارية لتوقيف عون وتصوير الأمر على أنّ الهبّة الحالية هي لمخالفة عون القانون وهيكليّة المؤسسة القضائيّة. وبالتالي، فإنّ كفّ يدها عن الملف يعني حكماً أن تكون خاتمته كسائر الملفات التي أحيلت إلى القضاء سابقاً، وتمّ تسجيلها «ضد مجهول».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا