إعادة إعمار المرفأ توازي في أهميتها إعادة الإعمار في لبنان بعد الحرب الأهلية، إذ أن إعادة إنشاء مرفأ على شاطئ العاصمة تعني إعادة ترتيب الشاطئ بمجمله، حسب منطق التطور الطبيعي للأزمة، ومتطلبات إعادة إعمار المدن المدمّرة بعد حروب أو انفجارات أو زلازل.لا يمكن إدارة مرفق حيوي، كمرفأ بيروت، بمعزل عن تصور عام جديد للوجهة الاقتصادية التي يحتاج إليها البلد بعد الانفجار الأضخم في تاريخه، والانهيار الاقتصادي والمالي الأكبر، خصوصاً أننا في مرحلة انتقالية، تزامن فيها انفجار المرفأ مع انفجار النظامين السياسي والمالي وإفلاسهما، وكأننا في مرحلة تفترض إعادة التفكير في الكيان ودور هذا البلد الصغير على ضفة المتوسط.
من الواضح أن انفجار الرابع من آب، والأوضاع السياسية والاقتصادية والإدارية المتشلّعة في لبنان، فتحت أعين (وشهية) دول وشركات كثيرة ولا سيما الأوروبية. وهذا أمر متوقع. فطبيعياً وتاريخياً، يُعتبر الشاطئ اللبناني جزءاً من البحر المتوسط، أحد أكبر البحار الأوروبية شبه المغلقة، والمحاط بـ 21 دولة تتشارك في خط ساحلي طوله 4600 كلم، ويعيش عليه نحو 525 مليون شخص، 70% منهم في المناطق الحضرية، مع توقعات بارتفاع العدد بنحو 130 مليوناً إضافية بحلول سنة 2050 (برنامج الأمم المتحدة للبيئة/خطة عمل البحر الأبيض المتوسط الزرقاء 2020. لذلك يفترض تقييم أي مبادرة جديدة من دول المتوسط أو شركاتها، سواء أتت من الألمان أو الفرنسيين أو الأتراك، من ضمن المبادرات الكبرى على المتوسط، كمبادرة «الاتحاد من أجل المتوسط» منذ أكثر من 15 سنة. ومن ثم تقييم الشراكة الأورومتوسطية واتفاقياتها والوعود والإجراءات…
كما يُفترض أن نقوم بمراجعة عميقة لخياراتنا السابقة إن في التعاون أو الاستثمار أو الدور. فما هي وظيفتنا ككيان (مستقل)، وبماذا يفكر الشركاء التاريخيون والطبيعيون في هذا الحوض، وعلى الضفة الأخرى؟ والأهم: ألا يفترض إعادة طرح الدور الاقتصادي في ضوء كل الخيارات التاريخية والمستجدّة؟ وأية قواعد ومبادئ رئيسية يفترض الحفاظ عليها في أي خيار مهما كانت الظروف وأياً يكن التردي الاقتصادي والمالي والمعيشي؟
فبعد الانهيار الخطير، هل لا نزال نصرّ على مقولة «بلد الخدمات» التي يفترض أن يقدمها مرفأ مثل مرفأ بيروت؟ بلد التجارة والتخزين والأَهراءات الضخمة أم بلد الإنتاج والتصدير؟ بلد خدمات واستيراد كل شيء (90% من المنتجات) واستنزاف العملات الصعبة، أم بلد أكثر إنتاجاً وأكثر توازناً؟ بلد السياحة البيئية التي تعتمد على حماية الطبيعة (بكل مقوّماتها من هواء وماء وثروات طبيعية) وسلامتها، أم بلد الاستثمار في أي شيء واستباحة أي شيء من أجل التجارة والخدمات على أنواعها؟ بلد يعتمد على طاقاته المتجدّدة والنظيفة والمستدامة، أم بلد نفطي يحضّر للتنقيب عن موارد النفط والغاز غير المتجدّدة وغير المستدامة والتي يمكن أن تهدد كل قواعد الاقتصاد المتوازن وطبيعته وبحره والشاطئ؟
من العبث بحث إنشاء مرفأ لعاصمة صغيرة ومتواضعة كبيروت وفق قواعد شركات إنشائية أو تجارية كبرى لها مصالح تتجاوز الدور المتواضع المفترض المحافظة عليه. ومن العبث، أيضاً، ربط إنشاء أي منشأة في هذا البلد الصغير بقواعد التجارة العالمية أو المتوسطية، وليس وفق قواعد الأنظمة الإيكولوجية المحلية وما بعد المحلية. لا نريد أن نعيد أخطاء الماضي، في لبنان والمتوسط والعالم… أي أن نؤسس أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق قواعد السوق وليس وفق قواعد الأنظمة الإيكولوجية. فهذه الأخيرة يفترض أن تخضع بقية الأنظمة لقواعدها وليس العكس. من هنا لا يمكن النظر إلى مرفأ العاصمة إلا من خلال نظرة شاملة إلى البلد وطبيعته وتراثه، وإلى كل الشاطئ الذي يُعتبر وحدة إيكولوجية لا تتجزّأ.
لنعتبر الخراب وإفلاس النظام وأركانه فرصة لإعادة التفكير بالمستقبل على قواعد جديدة ووظائف جديدة. أهم هذه القواعد التواضع أمام الطموحات والإغراءات المتجاوزة للطبيعة وإمكاناتها، كما لإمكانات البلد الصغير. وأي تفكير في إعادة البناء يفترض أن ينطلق من مبادئ جديدة لا يمكن تجاوزها، أولها أن على أي مشروع - كبير أم متوسط وعلى الشاطئ أم في الداخل - احترام النُّظم الإيكولوجية التاريخية (والتراث الحضري الطبيعي) وعدم التأثير في مسارها وآليات اشتغالها، إن عبر الردم أو بناء منشآت كبيرة تؤثر على البنية التحتية وتمنع رؤية البحر. والقاعدة الثانية هي حفظ حقوق الإنسان (والأجيال القادمة) في الوصول إلى الشاطئ، الذي يفترض أن يبقى مكاناً عاماً، ومنع أي قطع لتواصله، وإعادة ترتيب الشاطئ ومكافحة كل المخالفات وتغريم المعتدين.
وعلى نظام الاستيراد والتصدير أن يخضع للقواعد الإيكولوجية نفسها، بمعنى عدم استيراد السلع التي تؤثر سلباً على الطبيعة، وفي طليعتها الكيميائيات والبذور والشتول المعدّلة جينياً والإلكترونيات التي يفترض ربطها بنظام للاسترداد لتعود من حيث أتت عندما تتحول إلى نفايات، ولا سيّما تلك الخطرة منها. أهمية التطرق إلى نوع العلاقات لا تأتي من فوقية أو عنصرية، بل بناءً على التجارب السابقة الحديثة والتاريخية منها… وهي التي يفترض إعادة تقييمها قبل المباشرة في التخطيط لمشاريع كبرى والبدء بتنفيذها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا