يتدخّل في تأليف الحكومة ثلاثة أطراف خارجيين: السعودية وواشنطن وإيران (فرنسا هي الطرف الأقل حضوراً وتأثيراً). الأولى تتصرف على أنها غير معنية بالمطلق وتحاول عبر دبلوماسيتها في لبنان الحفاظ على الحد الأدنى من الحضور الذي يعكس معارضتها لكل ما يجري، واستمرار شبك علاقاتها المحلية بحلفاء محدودين. واشنطن تتعامل مع لبنان على قاعدة الضغط المتواصل قبل لحظة الصدام أو الحوار مع إيران، وهي غير معنية بأي مفاوضات لا تجري عبرها، مهما كان شكل هذا التفاوض أوروبياً أو إقليمياً. إيران لا تزال تعكس، في تريث حزب الله في الضغط لتأليف الحكومة، بأن الوقت لم يحن بعد للتأليف. ويتجاوب معه العهد، فلا يستعجل في إيجاد مخارج ترضي الطرفين المعنيين. يقول مطّلعون على أجواء أميركية إن أي حكومة ستؤلّف، سيكون للسعودية ولواشنطن حصة فيها، مهما كان شكلها، أو موقف الرياض من رئيسها. وهذا يعني أنها ستمنح لهذا الفريق مجالاً للتنفس، وتتاح له الفرصة كي يعيد الاستثمار في وضعية حلفائه. وهذا ما يجعل الحزب وخلفه إيران متريثاً في تسهيل عملية التأليف، قبل جلاء الوضع الدولي والحوار النووي، والأهم معرفة حقيقة نيات إسرائيل ومدى تغطية واشنطن لكل الضغوط التي تمارسها في المنطقة. هذا المشهد الدولي والإقليمي الذي يجعل الحكومة عالقة في شباكه، يقابله مشهد محلي تتضاعف عوامل التفسخ الداخلي فيه، الى حد أن معركة رئاسة الجمهورية أصبحت عدّة الشغل اليومية، وكأن كل الانهيارات الحاصلة أصبحت وراءنا. فهل أصبح فتح أي ملف سياسي من الآن وحتى انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ملفاً رئاسياً محضاً، تتصارع حوله القيادات المارونية رئاسياً وحزبياً وعسكرياً ودينياً؟إذا كان مبرراً للبعض أن تحمل مفاوضات تأليف الحكومة والمطالبة بالثلث المعطل أو الحصة الوافية من الحقائب المسيحية، مؤشرات معركة الرئاسة المقبلة أو احتمالات الفراغ، فإن الملفات السياسية المطروحة للنقاش حالياً، يفترض أن تكون ذات أبعاد سيادية ووطنية عامة. في حين أن المعركة في الأيام الأخيرة بدت مارونية، يخوضها المرشحون الموارنة وكل من موقعه، تمهيداً لمعركة الرئاسة المقبلة، فيما تتفرج القيادات الأخرى على هذا الصراع الرئاسي المكشوف.
في النظرة الأولى المباشرة لمرسوم تعديل الحدود البحرية، وما يخص المفاوضات مع إسرائيل، كلام منطقي وعلمي عن المساحة التي يحق للبنان بها، وفقاً لدراسات أعدّها الجيش اللبناني تثبت حق لبنان. رغم أن ملف هذه الحقوق عمره لا يقل عن عشر سنوات، بعدما تحوّلت حملة الحدود البحرية والتنقيب عن النفط، أيام الوزير جبران باسيل، مهمة يومية بلا انقطاع بعدما كان الرئيس نبيه بري يحمل لواءها، كما ملف التفاوض مع إسرائيل ووضعه على السكة قبل أن يصبح في عهدة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وقيادة الجيش. ولم نشهد أي تدخلات سياسية أخرى فيه لا من قريب أو من بعيد خلال السنوات الفائتة.
هل أصبح فتح أيّ ملف سياسي من الآن وحتى انتهاء ولاية عون ملفاً رئاسياً محضاً؟


وفي النظرة الأولى للكلام عن التدقيق الجنائي، كثير من المنطق والحقيقة، لأنه يتعلق بالمال العام، وبشبهات الفساد وبملفات عالقة تحتاج الى كشف المستور منها. رغم أن الكلام عن هذا الموضوع عمره سنوات أيضاً، ولم يكن محسوباً على فريق رئيس الجمهورية أو التيار الوطني الحر. لا بل إن التدقيق الجنائي كان قد طرحه الرئيس فؤاد السنيورة في حكومته قبل 14 عاماً من خلال مشروع قانون لم يلق تجاوباً حوله، حتى من رئيس الجمهورية نفسه. ويتهمه معارضون له اليوم بأن ما يقوله صحيح، إنما في التوقيت الخاطئ، بعدما غضّ النظر عنه منذ أن انتخب، ومنذ أن جدّد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وغطّى تجاوزات جمعية المصارف.
وإذا كانت المعارك السياسية الدائرة حول القضيتين ومعهما ملف الحدود البحرية مع سوريا، محقّة في شكل سياسي عام، إلا أنها في غمرة المراوحة الحكومية، تتحول عناوين معارك رئاسية مارونية، تزيد كل أسبوع بنوداً جديدة على برامج المرشحين الرئاسيين غير المطلوبة أساساً لانتخابهم. فما نراه اليوم أن من يقود الحملات الإعلامية والسياسية، هم رئاسة الجمهورية والتيار الوطني والمردة والقوات اللبنانية والبطريركية المارونية والجيش. كل منهم على طريقته ووفق أجندة معينة، يتبادلون الاتهامات وتحميل المسؤوليات، كما هي حال كل شخصية مارونية مرشحة أو طامحة في دور سياسي. وترافق هؤلاء حملات اتهام وتخوين وردود فعل مضادة وبيانات وتصريحات وعبارات على مواقع التواصل الاجتماعي، كأنها حرب الإلغاء يخوضها الجميع ضد الجميع، بلغة تافهة تصل الى حد القرف. في هذا الوقت، يسافر الرئيس سعد الحريري الى الفاتيكان وموسكو، ويزور مصر وفرنسا، ويذهب حزب الله الى مزيد من تجميع الأوراق الإقليمية والمحلية في يده، حتى تحين لحظة الإفراج عن الحكومة وبعدها وضع الانتخابات النيابية (لا الرئاسية) على المحك. لا أحد يحكي عن الانتخابات الرئاسية من الآن سوى القيادات الموارنة. والتجارب الرئاسية دلت على أنّ كلامهم عنها لم يكن دوماً «صحّ».



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا