بعد سنة من الآن، تجرى الانتخابات الرئاسية الفرنسية، قبل أشهر معدودة من انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. لكن الانتخابات بدأت فعلياً، على وقع مشهد فرنسي فيه مزيج من الاضطرابات الداخلية والفوضى في الحياة اليومية، وفي إدارة ملف كورونا والتلقيح. وفوق كل ذلك ضبابية سياسية في العلاقة مع أوروبا وبريطانيا. وما يعنينا، تخبّطٌ واضح في التعامل مع لبنان كملف سياسي، تضاف اليه محاولة استثمار الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون «القضية اللبنانية» في معركته الرئاسية، ليس سياسياً بل مالياً.يصف أحد المعنيين بالعلاقة مع فرنسا السياسة الحالية المتخبّطة تجاه لبنان والمسؤولين فيه، بأنها سياسة «الجزرة والجزرة». تحاول فرنسا منذ ما قبل انفجار الرابع من آب وضع يدها على الملف اللبناني، وسرّع الانفجار من وتيرة حضورها في بيروت، وما رافق زيارة ماكرون من إحاطة لبنانية وعمل إنساني تبرع فيها المبادرات الفرنسية. لكن هفوات الرئيس الفرنسي توالت من دون توقف. وهي بدأت لحظة تغير فيها خطابه السياسي الذي أدان فيه تارة المسؤولين اللبنانيين، وتارة فتح لهم الطريق لدفن مبادرته في مهدها، رغم محاولة تجميلها بين حين وآخر. واستكمل التخبّط مع تعامل فريق الإليزيه، تحديداً بعد تعدّد المستشارين والمتورطين منهم سابقا في الملف اللبناني، مع الحدث السياسي على الطريقة اللبنانية، وفتح قنوات جانبية وتسريبات متناقضة حيال رؤية فرنسا للتأليف الحكومي. «لبننة» أداء الدبلوماسيين الفرنسيين، بالمفهوم السيّئ للكلمة، كما يحصل أيضاً في بعض الشركات الفرنسية ومع مديريها، يعني أن المبادرة الفرنسية تترنح تحت وطأة تداخل حسابات ضيقة في التعامل مع هذا الملف على مستوى غير احترافي. والأهم أن هذا المسار كشف أن المبادرة الفرنسية باتت متحولة، لأن الحوارات الداخلية والخارجية تبدو كأنها تخطّتها ولم يتبق منها سوى الاسم. أما نقطة تحولها الاساسية، فهي أنها باتت تشغل الادارة الفرنسية في مكان محدّد، بعد حصرها بضرورة تأليف الحكومة أياً كانت، وإطلاق عمل الشركات الفرنسية التي ستستفيد من مؤتمر سيدر، وتوظيف هذه الحركة وأموالها في حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي انطلقت فعلياً، ويحتاج ماكرون الى «دفعة على الحساب» لتزخيمها.
فشل الحوارات الباريسية لن يرتدّ حصراً على لبنان، بل أيضاً على فريق الرئاسة الفرنسية


المبادرة التي انطلقت من انفجار المرفأ، أي من زاوية إنسانية، استقطبت تأييد اللبنانيين وترحيبهم بلفتات ماكرون المختلفة، صارت بنداً في الأجندة الانتخابية وتوظيفها داخلياً، عبر الشركات الفرنسية (وسيترك التحرك الألماني عبر شركات لإعمار المرفأ وما تهدّم من بيروت هواجس فرنسية إضافية) وفي تعزيز مكانة الرئيس الفرنسي وموقعه الخارجي. ومشكلة الإليزيه وفريقه أن هذا التخبّط أثبت مرة أخرى أن باريس لم تعد تملك من «الأظافر» ما يخولها التلويح بالعصا لاجتذاب أي معترضين، وهي ليست واشنطن أو طهران، وكلتا العاصمتين تتعاملان «بشراسة» في المفاوضات، أياً كان نوعها، سواء النووية أم تلك المتعلقة بإدارة الملفات المشتركة بينهما. وهما لا تزالان تمسكان بالملف اللبناني، وبات الكلام ممجوجاً عن أنه لا حكومة إلا بإفراج العاصمتين عنها، في حين تعمل باريس من دون جدوى، على خط الفاتيكان والسعودية التي ينتظر الرئيس الفرنسي زيارتها منذ أسابيع، فيما هي لا تنفك تكرر مواقفها من أزمة التأليف، ومصر التي سبق أن زارها الرئيس سعد الحريري في شباط الماضي، ويستعد وزير خارجيتها سامح شكري لزيارة بيروت بعد محطته في باريس. أما لبنانياً، فتهوّل باريس منذ ثمانية أشهر تارة بعقوبات، وهي تعرف أنها غير قادرة على فرضها، لأسباب قانونية، علماً بأن لدى بعض مسؤوليها الجديين ملاحظات واضحة ومعلومات موثقة عن حجم الفساد المالي لدى السياسيين والمصرفيين، كما عن الاهتراء داخل مؤسسات الدولة. وتارة تمدّد المهل التي تعطيها لتأليف الحكومة، كما حصل بعد زيارة ماكرون الثانية وإلغاء الزيارة الثالثة بسبب إصابته بكورونا، فتعطي فرصة أيام معدودة لتنفيذ وعود المسؤولين الذين اجتمعوا في قصر الصنوبر بتأليف حكومة سريعة، كما فعلت السلطات اللبنانية في تحديد مهلة أيام لكشف حقائق انفجار المرفأ. لكنها سرعان ما تتخطى المهل وتواصل عمليات الحوار والاتصالات معهم على أمل استنفاد وسائل جديدة تدفع بالحكومة وبمموّلي مؤتمرات دعم لبنان الى التحرك مجدداً، لأن الوقت أيضاً بدأ يداهم ماكرون في محاولة الخروج من سلسلة الازمات التي تواجهه داخلياً وخارجياً، علماً بأن باريس لا تملك، بخلاف واشنطن، من أدوات التضييق ومحاصرة المسؤولين عن عرقلة الحكومة، إلا الجزرة التي تضعها أمامهم ترغيباً. وهذا ما حصل في الايام الاخيرة بعدما ساد نقاش متجدد باريس عن احتمال فتح قنوات حوار مع عدد من المسؤولين المعنيين بتأليف الحكومة. ولا تزال الفكرة قيد النقاش، لاعتقاد البعض بضرورة دراسة جدواها الفعلية، وما إذا كانت تخدم عملية تسرع التأليف، أو أنها تسهم في تعويم الذين تحمّلهم باريس مسؤولية فشل عملية التأليف، أيا كانت هويتهم، في حين أن باريس سبق أن قالت ما تريد قوله، وسمعت وعوداً في قصر الصنوبر والقصر الرئاسي وغيرهما من اللقاءات الجانبية التي تلت زيارة ماكرون، من دون أن يتقدم ملف الحكومة خطوة واحدة الى الامام. فعدم خروج الحوارات الباريسية بنتائج إيجابية، لن يرتد حصراً في لبنان الغارق أساساً في مشكلات جمّة، بل سيضع الرئاسة الفرنسية وفريقها أمام فشل إضافي لا تحتاج إليه في الوقت الراهن.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا