في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات، تسلم البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي العصا البطريركية، خلفاً لآخر البطاركة الأتقياء مار نصر الله بطرس صفير. تأتي الاحتفالية هذه السنة في عيد البشارة، حاملة معها «رياح التغيير» في بكركي، على المستوى السياسي وعلى مستوى بدء بعض المطارنة استعدادهم لخلافة الراعي، من دون أن تكون هناك معلومات محسومة عن إمكان تخلّيه عن السدة البطريركية.على المستوى السياسي، يحمل الراعي منذ أشهر خطاباً جديداً مغايراً لذلك الذي أتى به قبل عشر سنوات، واقفاً به بوضوح الى جانب قوى 8 آذار، ولسنوات عديدة، قبل أن يبشّر بـ»ثورة» تغييرية. بحسب أوساط مطّلعة كنسياً وسياسياً، فإن الراعي تلمّس بعض ملامح ما يرسم للبنان، من أفكار دولية حول مستقبل نظامه السياسي، لكنه التقط إشارات غير مرفقة بمعطيات تفصيلية، فطرحها كعناوين كبرى، من دون آليات تنفيذية قابلة للحياة في ساحة معقدة. فالإشارات نقلت ملامح نقاشات دولية حول مستقبل النظام اللبناني والمجموعات فيه، لكنها لا تزال في بداياتها، ولم تتطور لتصبح مشروعاً متكاملاً. استبق الراعي الأمر فطرح أفكاراً للنقاش، لكنها في ظل التشابكات اللبنانية والامتدادات الاقليمية، اصطدمت للتوّ بردود فعل رافضة، خصوصاً من «حلفائه» السابقين. إلا أن هناك جانباً شخصياً أيضاً؛ فالراعي في تلقّفه الاشارات الدولية، إنما أيضاً يعيد تعويم نفسه بطريركاً. فهو من خلال إطلالاته الدورية وطرحه مبادرة تلو أخرى وخطبه الإعلامية شبه اليومية، واستقبالاته والترويج لها عبر مجموعات وشخصيات سياسية، إنما يرسل رسالة الى الفاتيكان تحديداً بأنه لا يزال موجوداً وبقوة، ومتسلحاً بدعم سياسي وشعبي يقف الى جانبه، بعدما طُرحت أخبار عدم الرضى عنه واحتمال طلب استقالته. نجح الراعي في مرحلة استدعاء الفاتيكان للكنيسة المارونية عام 2018، وبدعم من أحد رجال الأعمال اللبنانيين العاملين في الاغتراب مع نافذين فاتيكانيين، في سحب كل ما كان يريده البابا فرنسيس من لقاء هو الاول من نوعه بهذا الحجم مع البطريرك والمطارنة. ومع ذلك، أوصل فرنسيس ما يريده من رسائل، ولعل أولاها عدم ودّه للبطريرك، وهو ما ظهر لاحقاً في السنوات الاخيرة. لكن الراعي ظل يحاول القيام بمبادرات، وبعضها بتأثير من سياسيين لبنانيين، يُسجّل لهم أنهم نجحوا في تأمين استدارته، إن في زيارته السعودية أو في لقاءاته الشرق أوسطية، وصولاً الى خطابه ضد حزب الله والعهد. لكن الظروف مختلفة عن مرحلة 2018، لأن البابا بات حاداً أكثر في نظرته الى بعض ممارسات مؤسسات الكنيسة والرهبانيات، ولأن ظروف لبنان أصبحت معقدة أكثر فأكثر، إضافة الى أن من طبيعة العمل الفاتيكاني أيضاً، في ظل خلافات المطارنة، أن يطّلع الكرسي الرسولي على كل ما يدور في بكركي، وفي الأبرشيات في لبنان والخارج التي ترتبط به مباشرة. وما يجري يعرفه الراعي كما دوائر الكرسي الرسولي، هو بدء مطارنة حملاتهم»الانتخابية» لخلافته، بعدما بقيت أخبار احتمال الطلب منه الاستقالة تحت الرماد الى الآن، حيث نجح في استثمار الوضع السياسي لإطلاق حبريته مجدداً والبقاء فيها لسنوات مديدة.
والواقع أن جواً انتخابياً بدأ يظهر في صفوف بعض الذين تفاءلوا بالإيحاء باحتمالات استقالة الراعي الذي بلغ الشهر الماضي 81 عاماً، أسوة باستقالة الأساقفة عن عمر 75، علماً بأن هذه المعلومات تتكرر من حين الى آخر، نظراً الى العلاقة الباردة بين البابا والبطريرك، ونظراً الى سن الراعي، كما أنها طرحت من جانب قوى سياسية مناوئة له، علماً بأن استقالة صفير تمت عند بلوغه 91 عاماً، إضافة الى أن البابا نفسه يبلغ من العمر 85 عاماً، وأن البابا بنديكتوس استقال من البابوية عن عمر 86 عاماً.
هناك خمسة مرشحين من الصف الاول، ومحتملين لخلافة الراعي؛ واحد منهم يتحرك بقوة وعلانية هو مطران بيروت بولس عبد الساتر، وثانيهما مطران جبيل ميشال عون. والاثنان كانا أبرز المتنافسين على أبرشية بيروت، لكن عبد الساتر فاز على منافسه، بدعم مباشر من الراعي ومحيطه الخاص جداً، بذريعة قرار بعدم جواز نقل مطران من أبرشية الى أخرى. لكن أداء عبد الساتر الذي لا يلاقي إجماعاً حوله في أبرشية بيروت التي تصل حدودها الى نصف الجبل الذي «لا يحبه»، و«أساليبه» وجهره بانتمائه السياسي المعارض للبطريرك، وامتعاضه المتكرر منه ومن تحوله السياسي الأخير، وإحاطته بفريق ينتمي الى جهة سياسية واحدة، كلها معطيات تصل الى الراعي في صورة دورية. ورغم أن موقع راعي أبرشية بيروت يكون متقدماً، إلا أن أي انتخاب يمكن للراعي أن يكون له الكلمة المؤثرة لانتخاب خلف له، لا يمكن وفق العلاقة الحالية، أن يصبّ لصالح تزكية عبد الساتر. مع التذكير بما جرى إثر مأتم السياسي لقمان سليم، واللغط الذي دار حول الترتيلة التي أنشدت؛ إذ لأول مرة يضطر عبد الساتر، المعترض بقوة على ما جرى، الى الإطلالة التلفزيونية بعدما سبقه المطران حنا رحمة وأشاد بمشاركة كهنة في الصلاة الجنائزية. وهذه سابقة في ظهور المطارنة تلفزيونياً في سجال إعلامي غير مباشر.
أبرز المرشحين هم المطارنة عبد الساتر وعون وطربيه وسويف وعنداري


في المقابل يمثّل مطران جبيل ميشال عون منافساً طبيعياً لعبد الساتر، وهما خارجان من أبرشية بيروت. غاب عون عن الصورة الاعلامية منذ أن رجحت كفة عبد الساتر مطراناً لبيروت، إلا أنه يبقى أحد المنافسين الأقوياء، ويسعى من دون ضجيج الى تثبيت مواقعه في مرحلة سياسية حساسة، مستفيداً من عدم إلقاء الضوء عليه إعلامياً وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، بخلاف ما جرى مع مطران بيروت. المرشح الثالث المتداول اسمه هو راعي أبرشية أستراليا المطران انطوان طربيه. لكن طرح أي اسم من أسماء مطارنة الانتشار يبقى همساً، لأن العادة ألا ينتخب مطران من مطارنة الانتشار، إضافة الى أن طربيه راهب في الرهبانية اللبنانية المارونية، الأمر الذي لا يزال متعذراً لتفضيل المطارنة انتخاب كاهن، علماً بأن انتخاب الراعي خرق أكثر من 250 سنة من العرف بعدم انتخاب راهب للسدة البطريركية، وعلماً بأن من يزكّي طربيه ينطلق من حيثية مساهمته في ترطيب الأجواء وإقامة حوار بين القوات اللبنانية وتيار المردة. أما المطران الرابع الأكثر حضوراً، فهو المطران يوسف سويف الذي سامه صفير مطراناً على قبرص، وأصبح راعي أبرشية طرابلس حالياً، وقيل إن أحد أسباب انتقاله الى لبنان، هو لتقريبه أكثر من الموقع البطريركي، وإن له صلات قوية بالفاتيكان، رغم أنه من المطارنة غير المتحركين علانية، ولا سيما أنه انتقل حديثاً إلى أبرشيته.
واذا كانت تجمع المرشحين الأربعة فئتهم العمرية غير المتقدمة نسبياً (عبد الساتر (1962)، عون (1959)، طربيه (1967)، سويف (1962) ) وهو أمر يثير «نقزة» الأساقفة عادة، فإن في المقابل هناك المطران نبيل عنداري (1949)، وهو مرشح يذكّر بمواصفاته مرشحي مرحلة البطريرك صفير. يمثل عنداري الرعيل القديم في البطريركية بخطها التقليدي، علماً بأن مجلس الأساقفة الحالي لا يشبه مطلقاً مجلس الأساقفة في زمن حبرية صفير، بطبيعة رجالاته وتوجهاتهم، في ظل غياب يوسف بشارة وكميل زيدان وتقاعد غي نجيم وبولس إميل سعادة وبولس مطر، ولا سيما أن جزءاً أساسياً منه سيم مطراناً على يد الراعي نفسه، خلال السنوات العشر الاخيرة. وهذا أمر حساس وأساسي في صياغة دور البطريركية ومستقبل توجهاتها، حين تدق الساعة.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا