«البحث العلم اجتماعي عموماً، والتربوي تحديداً يجري في بلداننا العربية طبقاً لتقاليد أو طقوس اجتماعية على حساب التقاليد المعرفية، ما يفضي إلى منتج فارغ معرفياً تتركز وظيفته في خدمة منتجه في مكانته الاجتماعية أو إدراكه لهذه المكانة».هذا هو الموضوع الأساس الذي يدافع عنه الباحث التربوي عدنان الأمين على امتداد كتابه الجديد «إنتاج الفراغ ــــ التقاليد البحثية العربية» (الدار العربية للعلوم ناشرون). الأفكار حول الموضوع ليست وليدة اليوم، إنما تطورت لدى الباحث منذ عام 1987. يومها، كان الأمين يشرف على إعداد بيبليوغرافية للتربية في لبنان، وكان المطلوب إعداد ملخصات عن الكتب والمقالات والرسائل والأطروحات الجامعية التربوية التي صدرت في لبنان حتى ذلك العام. شيء ما في هذه الدراسات جعل الكثير منها يبدو مضجراً للباحث ولو اختلف الموضوع، إلى أن تلقّف تعبيراً استخدمه محرر المشروع في حينه، حسني زينة، وهو «نصوص سقيمة»، وقرر بعد مدة من الزمن أن يخضعها للتحليل، إذ ظهرت وقتها أمامه «واقعة بحثية» لم يكن على دراية بوجودها، أو أنه على الأقل لم يكن يدرك أنها تستحق البحث.
وبما أنّ أبحاث العلوم الاجتماعية تدرس الوقائع الاجتماعية من أجل تفسيرها، تحوّلت الأبحاث أو ملخصاتها التي كانت بين يدي الباحث إلى وقائع تحتاج نفسها إلى تفسير من منظور العلوم الاجتماعية. إذ وجد الأمين أن هناك نماذج أو أنماطاً بحثية سائدة تحكمها تصورات معينة لدى الباحثين عما يقومون به عندما يجرون أبحاثهم وتصورات عن الجمهور الذي يخاطبونه، أي لمن يكتبون. من هؤلاء من يدافع عن قضية أو يؤكد ما هو معروف كأنه ينتظر التصفيق من الجمهور الواسع، أو يشرح كأنه يخاطب طلاباً. ومنهم من يتصرف باعتباره «باحثاً محايداً» مهمته البرهنة على وجود علاقة بين المتغيرات أو عدم وجودها وكأن لا سياق اجتماعياً لما يبحث فيه. كذلك وجد بين الباحثين «الشيخ الحديث» أو «داعية التربية الحديثة» و«النقابي« و«السياسي» و«العالم المحايد» و«صاحب الفكر النقدي» و«الخبير» العربي.
خرج الأمين من التجربة باستنتاجين: الأول ضرورة أن تتوفر للباحثين التربويين قاعدة بيانات حول جميع الدراسات السابقة بما يسمح لهم برصد تطور المعرفة في موضوعاتهم وتوليفها بما يفضي إلى تحديد الثغر المعرفية التي تستحق الخوض فيها، والثاني أن البحث التربوي يخضع رغم ظاهره الحيادي لضغوط واعتبارات اجتماعية، فضلاً عن الاعتبارات العلمية.
بعدها تابع الفكرة أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يدخل فيها إلى الموضوع كان يكتشف جوانب جديدة فيه، إلى أن شهدت الفكرة نقلة نوعية، كما يقول، مع تأسيس شبكة المعلومات التربوية العربية (شمعة) عام 2010 حيث بدأ التفكير بقضايا نوعية الأبحاث.
على غرار تسمية عالم الاجتماع الأميركي تشارلز رايت ميلز التقاليد البحثية التي تقوم على عبادة المنهجية بـ«الإمبريقية المجردة»، لا يتردّد الأمين في تسمية هذه التقاليد في الدراسات العربية في العلوم الاجتماعية بـ«الإمبريقية الفارغة». في هذا النمط، تتعدّد، كما يقول، النماذج، بما في ذلك الخداع المنهجي، لكنها تتشارك في قواعد عمل أشبه بـ«الطقوس الاجتماعية».
وتحت عنوان «تفسير الأبحاث» يجري الكاتب مراجعة نقدية لتفسيرات متداولة متعددة، وتندرج في مجموعتين: الأولى تضع المشكلة في عدم ملاءمة الأبحاث لحاجات المجتمع. وبما أن البحث في هذا المعنى غير مفيد اجتماعياً، لا يلبي حاجة المجتمع إلى التنمية مثلاً، يجري الاستنتاج بأن الأبحاث القائمة منفصلة عن المجتمع وأن هناك تقصيراً في السياسات وأن هناك «معوقات» خارجية. أما المجموعة الثانية من التفسيرات فتنقل المشكلة إلى داخل الأبحاث، وبالتحديد إلى الجهل المنهجي.
أبحاث العلوم الاجتماعية التي تدرس الوقائع الاجتماعية لتفسيرها تحوّلت إلى وقائع تحتاج إلى تفسير


لكن الادعاء على الباحثين في العلوم الاجتماعية لجهة تبنّيهم لتقاليد اجتماعية في البحث لا يلغي وجود «أسباب تخفيفية»، بحسب الأمين، تتعلق خصوصاً بالشروط التي ينتجون فيها أبحاثهم، أي الشروط المباشرة لإنتاج المعرفة القائمة في المؤسسات التي يعملون فيها، حيث ينتجون أبحاثاً ويعلّمون: الجامعات ومراكز الأبحاث. وهنا يقول إن الدول العربية تقدم تلويناتٍ متنوِّعة لسيطرة القوة السياسية على القوّتين (الاقتصاد والمعرفة) اللتين بَنى عليهما عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو نظريته. ويمكن القول إنّ سيطرة السياسة الواضحة لأيّ مراقب لمجريات العمل في الجامعات العربية، ولا سيما الحكومية منها، هي المفسِّر الرئيسي لإنتاج المعرفة الاجتماعية وتداولها في هذه البلدان.
مع ذلك، يرى الباحث أن الأساتذة الجامعيين يضعون أو يشاركون في وضع شروط المهنة التي يمارسونها، يعلّمون المعرفة التي ينتجونها، أي أنه تقع على عاتقهم جزئياً شروط عملهم في الجامعة ومراكز الأبحاث، وكلياً في ما يصنعونه بأيديهم من باحثين.
الأمين يتناول «النمط التلفيقي» للبحث وهو «حاصل نتيجة تركيب مصطنع بين أطر نظرية (أفكار ومفاهيم) متضاربة أو نتيجة تركيب أطر نظرية فوق وقائع غير ملائمة ولا تنطبق عليها هذه الأطر. سرّ هذا النمط، وفق الأمين، هو افتتان الباحث بإطار نظري معين، فيجعله مفتاحاً لكل واقعة، بسبب أو من دون سبب. هو افتتان بقدر ما هو خيار فكري لدى الأساتذة الجامعيين، لكنه يصبح تمريناً بحتاً في التلفيق لدى طلاب الماجستير والدكتوراه، إرضاءً للأستاذ المشرف وافتتانه، أو نزوعاً لحشد الأفكار والنظريات في الأطروحات من أجل إرضاء باقة متنوعة من المناقشين المحتملين».
في الأساس، كل تفكير علم اجتماعي لا معنى له، بحسب الباحث، إن لم تكن له مرجعية فكرية إن كانت محلية أو عالمية. هذه هي تقاليد البحث المعرفية.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا