توسّعت التكهّنات التي رافقت الاجتماع المعقود نهاية الأسبوع الفائت بين موفد لرئيس الجمهورية ميشال عون والسفير السعودي وليد البخاري. مع أن الهدف الأول منه نقل اعتذار رئاسة الجمهورية عمّا رافق إحدى حلقات تلفزيون التيار الوطني الحر من تناول أحد ضيوفها السعودية بقسوة والتعرّض لها، إلا أنه أوحى بإعادة التواصل ما بين الطرفين. قيل أيضاً، على ذمّة رواة، إن الأحاديث تشعّبت بينهما ووصلت إلى التفكير في سبل تحسين العلاقات. مما قيل إن السفير ربّما عاد بأجوبة من المملكة عن بضعة أسئلة طرحها عليه زائره. لكنّ المهم في اللقاء تأكيد السفير استعداده لزيارة قصر بعبدا، هو المقلّ فيها ما خلا ذات الطابع البروتوكولي المحض، ما عكس انطباعات إيجابية في الظاهر، غير ملموسة بعد وقد تحتاج إلى بعض الوقت.تزامن ما حدث مع معلومات ليست حديثة العهد، لكنها أضحت ذات مغزى في هذا التوقيت، مرتبطة بحوار دائر بين سفيرَي لبنان والسعودية في باريس، وتجمعهما صداقة شخصية هناك، تطرقت إلى إزالة الالتباس في علاقات الرئاسة اللبنانية بالسعودية. ليس خافياً أن فرنسا ليست بعيدة عن الاطّلاع على هذا الحوار، نظراً إلى علاقة وطيدة قديمة ربطت السفير رامي عدوان بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كانت سبباً في تعيينه في منصبه هناك.
ليس خافياً أن الرئاسة اللبنانيّة تعوّل على تحسين علاقاتها بالرياض واستعجال خطوات جدّية، تترك أثرها على تأليف الحكومة الجديدة بالرئيس المكلّف سعد الحريري أو سواه. لا تكتم الرئاسة عدم حماستها لوجود الحريري على رأس الحكومة، وليست متحمّسة للتعاون معه بالشروط المستعصية كالتي يطرحها، إلا أنها لا تحبّذ في المقابل خلفاً له يكون إلى يساره. صحيح أن الحريري كسول أكثر مما ينبغي في حسبانها، بيد أن الأخطر أن يخلفه رئيس مكلّف يصير رئيساً لحكومة يفتح باب نزاع مع حزب الله لا طاقة للبلاد على تحمّله. التخلص من خيار بات سيئاً لا يفترض إحضار خيار أكثر سوءاً.
مع أن الرقم غير مشجّع، إلا أن عون زار المملكة مرّتين فقط: أولى في كانون الثاني 2017 مخصّصة لها كانت أولى زياراته خارج لبنان بعد انتخابه، وثانية اتّصلت بمشاركته في القمة العربية في نيسان 2018.
مع أن ما ينتظره عون مبكر ويتطلّب ربما وقتاً كي ينجح إذا نجح بالفعل، بيد أن ما يمكن أن ينتظره الحريري بات متأخراً عليه كثيراً في ظل تردّي علاقته بالمملكة إلى حدّ القطيعة، وتالياً خروج هذا البيت من كنف العائلة المالكة.
تقارب الرياض علاقتها برئيس الجمهورية، كما بالرئيس المكلف، على نحو متشابه في بعض جوانبه، ومختلف في جوانب أخرى: مع عون، الأزمة سياسية متصلة بتحالفه العميق مع حزب الله ــــ لا نظير له بينه وبين سائر الأفرقاء ــــ يجعل من المتعذّر بالنسبة إليها التعاون وإياه والانفتاح عليه بالسهولة المتوخّاة، وخصوصاً أن نفوذ الحزب في الحكم لم يعد يقلّ شأناً عن نفوذه في الشارع، وتنظيم توازن القوى في البلاد، في ظلّ الولاية الحالية. حيال الحريري، المشكلة أصعب كونها مزدوجة: سياسية وشخصية. كلا الشقّين أشقّ عليه من الآخر.
في حسبان المملكة، تكمن المشكلة السياسية في أنها تعدّ الحريري أقرب إلى حزب الله منه إليها، هو المدين لها بكل ما فيه وعليه حتى عام 2017. هي نفسها قصّة صعود والده الرئيس رفيق الحريري، الصيداوي الذي لم يعرفه اللبنانيون سوى أنه وسيط سعودي أنيطت به وساطات ما بين الرئيس أمين الجميل وسوريا منذ عام 1983 ووقف القتال حينذاك، عندما كان يحضر برفقة بندر بن سلطان. مذذاك، أكثر منه مقاولاً ثريّاً، نُظر إليه على أنه مفاوض منتدب يزاوج بين المال والإقناع، بادئاً صعوده حتى بلغ الذروة بوصوله إلى السرايا، فلم يدخل المشهد اللبناني سوى بصفة أن المملكة ظهيره وهو بوابة التواصل معها والحصول على دعمها ومساعداتها. بدا أن الابن منذ عام 2005 سيكمل مسار الأب، فإذا به يهدر السيرة كلّها من أوّلها إلى يائها بمالها ومكانتها السياسية. في الشقّ الشخصي، ثمّة أزمة ماليّة معروفة بينه وبين المملكة قبل أن تتولى معالجتها على طريقتها بوضع اليد على أملاكه وعقاراته. لكن في الشقّ الشخصي أيضاً ما يعبّر عن غضبها، بعدما وصل إليها الكثير ممّا كان يقوله الحريري أمام المخلصين له في محيطه من انتقادات قاسية لها، راح هؤلاء المخلصون ينقلونها إلى قنوات كي تصل إلى السعودية.
في حسبان المملكة، عون والحريري متشابهان: الأول حليف حزب الله والثاني متساهل معه


لذا، عُدّ من الطبيعي أن يُسمع للرياض موقف جامد لا يتحرّك لمن يزورها أو مَن يتواصل مع سفيرها في بيروت، مفاده أنها غير معنية بالحريري كما بسواه في رئاسة الحكومة. لهذه العبارة المنطوية على رغبة معلنة في عدم التدخّل في الشؤون اللبنانية المحلية معنى إضافي، هو أنها لم تعد ظهيراً له أبداً. ليس هو مصدر مشكلتها مع لبنان، بل النفوذ المتنامي لحزب الله في الحكم والشارع، فضلاً عن العداء الذي يتبادلانه، المملكة والحزب، في النزاعات الإقليمية. يصبح من الطبيعي الاستنتاج أنها تنظر إلى رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف على نحو متشابه: الأول حليف صلب لحزب الله لا يتزحزح، فيما الثاني متراخٍ متساهل ومتعاون معه مساير له في مقابل تمتّعه بدعم الثنائي الشيعي في الوصول إلى السرايا والبقاء على رأس الحكومة، يساهم في الوقت نفسه في توفير غطاء سنّي لقوة الحزب في الداخل اللبناني. وهي المرة الأولى في تاريخ بيت عائلته يحصل فيها مثل هذا العصيان على المملكة لم يُجرّبه الأب من قبل، ولا خطر له حتى.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا