الإصلاح لا يمكن أن يستوي من دون وجود هيئات رقابية فاعلة. بعد ١٧ تشرين، صارت هذه الهيئات أكثر جرأة في فتح ملفات فساد، لكن مع ذلك فإن أغلب هذه الملفّات ينتهي عند حدود الحصانات السياسية التي تمنع المحاسبة وتعيق أي أمل في الوصول إلى رؤوس الفساد أو حتى معاونيهم. التفتيش المركزي واحد من هذه الهيئات، وله دور محوري في مراقبة أعمال الإدارة والموظّفين، كما يملك الحق في فرض عقوبات مباشرة على الموظفين المخالفين، أو إحالتهم إلى الهيئة العليا للتأديب والنيابة العامة التمييزية والنيابة العامة لدى ديوان المحاسبة.مع ذلك، يتبيّن أن التفتيش المركزي غير قادر على القيام بدوره كاملاً، ليس بسبب الشغور، المعضلة التي تواجه أغلب المؤسسات، بل بسبب الخلافات الشخصية! هيئة التفتيش المركزي مؤلّفة من رئيس التفتيش والمفتش العام التربوي والمفتش العام المالي. والخلاف بين رئيس الهيئة جورج عطيّة والمفتشة التربوية فاتن جمعة أدى إلى عدم دعوة عطيّة (وحده يحق له دعوة الهيئة) إلى أي اجتماع منذ 8/4/2019. سنتان مرّتا من دون اجتماع الهيئة، بالرغم من أن المرسوم الرقم ٢٤٦٠ (نظام التفتيش المركزي) ينص، في مادته الثالثة، على أن «تجتمـع الهيئـة بدعـوة من الرئيس، أو بنـاءً على قـرار سابـق، مرّتيـن علــى الأقـل في الشهـر، وكلمـا دعت الحاجـة الى ذلـك». اجتماعان شهرياً هما الحد الأدنى إذاً، فكيف يمكن أن يكون التفتيش المركزي فاعلاً وقادراً على القيام بدوره خلال سنتين من عدم اجتماع هيئته، ذات الصلاحيات الواسعة؟
كثيرة هي النقاط التي أدت إلى الخلاف. لكنها جميعها تؤدي إلى مصير واحد، هو تعطيل واحدة من أبرز الهيئات الرقابية. على سبيل المثال، تؤكد مصادر مطّلعة أن رئيس التفتيش رفض أكثر من مرة تنفيذ مقررات الهيئة إذا لم تصدر بالإجماع، بالرغم من أن قانون الهيئة يسمح باتخاذ القرارات بالأكثرية. في أحد الاجتماعات التي اتخذ فيها القرار بالأكثرية، طلب رئيس التفتيش تأجيل بتّ المسألة إلى الهيئة القادمة لمزيد من الدرس، لكنه أصرّ في الموعد اللاحق على بدء البحث في ملفات جديدة موضوعة على جدول الأعمال، رافضاً بتّ ملفات كان بدأ البحث بها وينبغي اتخاذ القرار بشأنها.
أحد المفتشين التربويين، وهو كان مكلّفاً بأمانة سر الهيئة، أعطاه الأخير إجازة إدارية مع إذن سفر، من دون علم المفتشة التربوية المسؤولة المباشرة عنه، ومن دون إبلاغها بالقرار. فقامت الأخيرة بإصدار عقوبة بحق المفتش، إلا أن عطية عاد وألغى العقوبة، ما استدعى من المفتشة التربوية الطعن في القرار أمام مجلس شورى الدولة (لم يبتّه بعد). هنا اعتبرت جمعة أن عطية تجاوزها بالموافقة على إجازة لمفتش يتبع لها تسلسلياً، وعطية اعتبر أنه يحق له إعطاؤه إجازة، طالما يعمل في أمانة السر، رافضاً أن يكسر قراره.
من الملاحظات التي سيقت بحق عطيّة تكليفه مفتشين بمهام إضافية من دون أخذ رأي المفتشين العامين، وعدم الأخذ برأيهم في التعديلات التي يجدونها ضرورية لتحسين سير العمل في مفتشيّاتهم. لكن عطية، في المقابل، يتعامل مع الموضوع بشكل مختلف. بالنسبة إليه لا يمكن العمل في أجواء من الاستفزاز والتجريح، وبالتالي كان من الأجدى عدم دعوة الهيئة إلى الاجتماع قبل أن تبتّ المراجع العليا الأمر.
في النتيجة، وبالرغم من وجود عشرات القضايا الخلافية بين الطرفين، فإنه يمكن اختصارها بالآتي: «سعي عطية إلى تحييد الهيئة والتفرد بالقرار» مقابل «إصرار جمعة على تخطّي الأعراف والأصول في التخاطب مع رئيس الهيئة». لكن مهما كان السبب الفعلي، وبغض النظر عن مسؤولية كل طرف، فإن الأكيد أن هذه الخلافات كان لها ضرر كبير على التفتيش المركزي وعمله الرقابي، خاصة بعد أن اعتكف رئيس التفتيش عن دعوة الهيئة، وركّز جهوده على منصة impact الخاصة بالتنسيق والمتابعة في ما يتعلق بفيروس كورونا وانتشاره، التي أنشأها منذ نحو عام (بالرغم من أهمية هذه المنصة في إطار مواجهة فيروس كورونا، إلا أنها أثارت الكثير من الأسئلة التي تتعلق بقانونية إنشاء الوحدة ومصادر تمويلها، وتحويل عمل التفتيش المركزي من الرقابة إلى الإحصاء، الذي يتضارب مع صلاحيات عدد من الإدارات الأخرى).
واحدة من القضايا التي ظلت عالقة، هي قسم اليمين للمفتشين التربويين الذين عيّنهم مجلس الوزراء. للتذكير، كان التفتيش أعلن الحاجة إلى ٥٢ مفتشاً تربوياً. وبالفعل، تم تأهيل ٥٢ ناجحاً في الامتحانات التي أجراها مجلس الخدمة المدنية، إلا أنه بحسب الاختصاص، تم إعلان فوز ٢٨ متقدماً. لكن بسبب الخلاف الطائفي، لم توافق حكومة سعد الحريري على تعيين الناجحين. واستمر الخلاف بشأنه لنحو سنتين، قبل أن يحسم الرئيس حسان دياب الموقف، ويقرر مجلس الوزراء منذ نحو سبعة أشهر تثبيت الناجحين الـ28.
انتقل المفتشون الناجحون إلى مركز عملهم، وبدؤوا بتقاضي رواتبهم، لكن من دون أن يتمكنوا من القيام بالمهام الموكلة إليهم، لسبب بسيط، هو أنه يفترض بهم أولاً قسم اليمين. فبحسب قانون إنشاء التفتيش «يحلف المفتشون العامون والمفتشون المعاونون قبل تسلّمهم مهامهم اليمين نفسها أمام هيئة التفتيش المركزي». ولأن عطية لم يكن يدعو الهيئة إلى الاجتماع، تحوّل هؤلاء المفتشون إلى أشبه بمتدربين لفترة سبعة أشهر كاملة.
رئاسة الحكومة دفعت باتجاه تفعيل هيئة التفتيش


الرئيس حسان دياب أبدى امتعاضه ممّا يجري. ناقش الأمر مع رئيس التفتيش، مؤكّداً ضرورة حسم الأمر، ودعوة المفتشين إلى قسم اليمين. لم يمانع رئيس التفتيش، لكنه كان يأمل قبل ذلك معالجة المشكلة بطريقة لا تكسره. فهو يعتبر أن المفتشة التربوية سبق أن تعرضت له أكثر من مرة وبطريقة غير لائقة، وإحداها في اجتماع عقده الرئيس سعد الحريري مع الهيئات الرقابية. لكن تحت ضغط رئاسة الحكومة، المصرّة على تسيير العمل بعيداً عن أي اعتبار آخر، وافق عطية على المضيّ قدماً بدعوة الهيئة إلى اجتماع يقسم خلاله المفتشون الـ28 اليمين. فتقرر، بالتشاور مع رئاسة مجلس الوزراء، أن يحصل ذلك ظهر يوم الخميس المقبل في السراي الحكومي، على اعتبار أن قاعات التفتيش المركزي لا تتسع لهذا العدد، خاصة في ظل ضرورات التباعد الاجتماعي.
هل هذا يعني أن اجتماع الهيئة هذا سيكون استثنائياً أم أنه سيكون فاتحة عودتها إلى الاجتماع؟ تؤكد مصادر معنية أن الاجتماعات ستتوالى في إطار مسار جديد من الرقابة الفعّالة والمحاسبة الفعّالة. كما تشير المصادر نفسها إلى أن رئيس التفتيش، في سبيل ذلك، كان سبق أن قرر الدعوة إلى اجتماع لقسم اليمين مع بداية العام، إلا أن ظروف الحجر لم تُساعد في ذلك.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا