في لبنان، لا يكفي الإجماع على وجوب محاربة الفساد حتى ينطلق قطار الثورة. الاختلافات تتركز حول سبل محاربة الفساد بطريقة تكشف الاختلاف العميق حول تحديد المسؤول عن الفساد. وفي كل مرة، يعود اللبنانيون ويُظهِرون أن انحيازاتهم السياسية ذات الخلفيات العقائدية أو الطائفية أو المصلحية، أشدّ وأقوى من انحيازهم الى المشتركات التي تقع تحت عنوان «المصلحة العامة». وسرعان ما تتحول هذه الانحيازات الى انقسامات تشمل كل شيء في البلاد. وتشمل أساساً المؤسسات العامة للدولة، والتي يفرض النظام الطائفي، لا أي سبب آخر، وجود تنوع فيها.بهذا المعنى، عندما يختفي الاعتبار الطائفي (جمعيات أهلية أو غير حكومية أو إنسانية) أو عندما يتم قمع الاعتبار الطائفي (الجيش والقوى العسكرية والأمنية ووزارات الخدمات) أو عندما يسري التكاذب حول الاعتبار الطائفي (القطاعات المالية والاقتصادية والإنتاجية)، فإن هذا الاحتيال لا يلغي حقيقة الانقسام البشع القائم، ما يجعل أي مؤسسة عرضة لانفجار سريع متى اصطدمت بالمصالح العليا للجماعات اللبنانية. ويظهر أن عدم القدرة على تنفيذ انقلاب عسكري أو إمساك قوة وحيدة بالوضع، ليس سببه عجز هذه القوى عن توفير متطلبات الانقلاب اللوجستية، بل لكون المرض الطائفي فيه فائدة واحدة وهو : منع الدكتاتورية بمعناها المتعارف عليه في بقية العالم!
منذ توقف الحرب الأهلية في لبنان، لم تنعكس التحولات السياسية الجارية على صعيد التمثيل أي تبدلات عميقة في أصل الانحياز الشعبي. ها نحن بعد ثلاثة عقود، نعرف أن القوى الرئيسية التي تتمتع بتأييد غالبية شعبية ولديها فعالية تنظيمية وقدرات تنفيذية، هي ذاتها القوى المستندة الى خلفيات طائفية ومذهبية وقبلية. ولم يحصل أن شهدنا في لبنان حالة انقلابية واحدة على هذا النوع من الانحياز، ما يعني أن معالجة الخلل القائم في لبنان اليوم، لن يتم من دون انقلاب عام، وهذا مجرد وهم في الواقع الحالي. ولذلك، فإن كل تفكير طفولي بعمل انقلابي يتم على أيدي مجموعات مدنية تحظى بغطاء الخارج، أو على أيدي قوى متحالفة في ما بينها، أو حتى على يد الجيش أو القوى العسكرية، إنما هو في حقيقة الأمر مجرّد وهم ومغامرة حمقاء ستقود البلاد الى انقسامات إضافية، وستتعثر هذه القوى نفسها وتشهد انقسامات سبق أن جربها وعاشها اللبنانيون في العقود الخمسة الماضية. وليس بمقدور أي خارج أن يفرض وصاية عملانية من دون قدرته على ترهيب القوى السياسية هنا، وتوفير التمويل المطلوب لمثل إدارة كهذه. وهذا بالضبط ما كان سائداً بين العامين 1990 و2005، حين نجح الاتفاق الأميركي - السعودي - السوري، في فرض آلية لإدارة البلاد استمرت حتى لحظة انفراط عقد هذا التحالف يوم اغتيال رفيق الحريري. ومنذ ذلك الحين، لم يقدر اللبنانيون ولا القوى الخارجية على عقد اتفاق جديد يعيد الهدوء الى الحياة اليومية للناس.
منذ 17 تشرين العام 2019، يحاول لاعبون من الداخل والخارج الاحتيال على الوقائع القاسية في لبنان. تصرف البعض على أن الحراك «حيلة» يمكن استخدامها لإطاحة السلطة السياسية من دون المس بجوهر النظام. لكن ما حصل خلال شهور قليلة أن الناس عادوا الى انحيازاتهم الأصلية، وتحول «المنقذون» الى مرتزقة يسعون لكسب رزق عيشهم من مصادر تمويل لم تعد متوافرة في لبنان. وسادت الخيبة جمهوراً صادقاً لم يعرف بعد ما جرى معه. وعندما وقع انفجار المرفأ، كان في لبنان والخارج من اعتقد أنه بعد إطاحة فعالية السلطة السياسية في 17 تشرين، صار بالإمكان أخذ وظائفها من خلال المنظمات غير الحكومية. لكن مراجعة بسيطة لما قامت به غالبية هذه الجمعيات في مواجهة أزمة المرفأ، أو في مواجهة الأزمة المعيشية القائمة في البلاد، أظهرتها بصورة لا تقل بؤساً وفساداً عن صورة السلطة السياسية نفسها، ما جعلها فاقدة للصلاحية بأسرع مما يتوقع المرء. حتى وصلنا الى «تحركات» لا «حراك»، لنجد أن الفعالية غير ممكنة إلا حيث توجد قوى منظمة، بينما تسود الفوضى كل الأمكنة الأخرى.
بعد فشل بديل «المنظمات غير الحكومية»، «الخارج» و«المكتب السياسي» يبرر لقائد الجيش تجاوزه القوانين ويقنعه بأن الناس تتلهف لحكمه البلاد من دون نقاش!


ومع ذلك، نجد الآن من يعتقد أنه في حالة تضرر السلطة السياسية والسلطة المدنية الموازية، صار بالإمكان اللجوء الى الجيش كوسيلة للإمساك بالبلاد. وبدأ العمل على إشاعة مناخات مقززة، ليست سوى نسخة عن الحملات الشعبوية التي عاشتها شعوب كثيرة في العالم في سياق التمهيد لحكم العسكر. ولنا في العالم العربي آخر تجربتين مقيتتين، في حكم عسكري مباشر في مصر والسودان، أو حكم بوليسي مقنّع كما يجري في قطر والسعودية والإمارات وبعض دول المغرب العربي. وثمة عندنا من يريد لنا أن نكرر التجربة، وحجته أن الجيش «لا يزال المؤسسة الوحيدة التي تحظى بدعم غالبية الشعب، وأنه مشكّل من طوائف ومناطق ومذاهب تمثل كل البلاد، وأنه بعيد عن الإدارة العامة للدولة أو للسياسات، وأن انضباطيته تسمح بتسلمه الإدارة التي تتحكم الفوضى فيها».
عملياً، هذه هي الخلفية التي يتحرك على أساسها قائد الجيش العماد جوزف عون من موقع المرشح القوي لرئاسة الجمهورية، أو لقيادة مرحلة انتقالية يحكم بموجبها الجيش البلاد. ولدى العماد عون «مكتبه السياسي» المؤلف من عسكريين متقاعدين وناشطين سياسيين وإعلاميين وبعض رجال الأعمال، وهؤلاء يتصرفون باقتناع يقوم على الآتي:
أولاً: إن السلطة في لبنان فاقدة الأهلية والشرعية. فرئيس البلاد يرفضه قسم كبير من اللبنانيين ويطالبون برحيله. والحكومة مستقيلة وهي كانت مصدر خيبة للناس، والرئيس المكلف غير قادر على تشكيل حكومة من دون الخضوع لحسابات القوى البارزة، وإن مؤسسات الدولة معطلة ومفككة، وإن القطاع الاقتصادي ينشد استقراراً سياسياً وأمنياً يتيح له معاودة العمل، وأنه لا يوجد في لبنان قوى أو مرجعية خارج الانقسام سوى قيادة الجيش.
ثانياً: إن الخارج الذي يحتاج إليه لبنان كغطاء سياسي لأي حكم فيه، أو للدعم المالي والاقتصادي، لا يمانع تولي الجيش المسؤولية في حال وفّر فرصة لاختصاصيين (هم في حقيقة الأمر، مدنيو المنظمات غير الحكومية لصاحبها مصدر التمويل الخارجي)، وإن الجيش بمقدوره فرض توازن ميداني مع حزب الله الذي هو مصدر شكوى الخارج العربي والغربي. وبالتالي، فالجيش مرحّب به خارجياً.
ثالثاً: إن القوى السياسية والمرجعيات الدينية في لبنان لا تملك القدرة على مهاجمة الجيش أو انتقاده، لأن في ذلك ما يهدّد الاستقرار الأمني العام في البلاد. وإن فكرة انتقاد الجيش غير مرحّب بها أصلاً، وإنه يمكن الإمساك بغالبية الرأي العام وبالمؤسسات الإعلامية أيضاً.
لكن هذه الوصفة تخلو من كل العناصر المطلوبة لنجاح الطبخة. فقائد الجيش ليس سياسياً على الإطلاق، وتجربته في هذا المجال محدودة للغاية، ولا تعكس فهماً عميقاً لتاريخ البلاد وتعقيداته والحسابات المتعلقة بالداخل والخارج. ثم إنه ضيّق الصدر، ويعتقد أن معالجة الأمور تتم بإصدار الأوامر وبتوفير عناصر التنفيذ فقط. وهو لا يرحّب أبداً بكل رأي آخر، حتى ولو أضيفت الى خطبه عبارات احترام حريات التعبير والتنوع، فهذا لا يعني شيئاً في بلاد مثل لبنان.
إضافة الى ذلك، فإن تجربة قائد الجيش الحالي مع الحكومات التي عمل معها منذ تعيينه، لا تبشّر بالخير. فهو دائم الصدام مع وزراء الدفاع متى قرروا الدفاع عن صلاحياتهم. ثم هو يبرر لنفسه القيام بأمور من خارج النص القانوني لأجل الضرورات: من عقد اتفاقات تعاون أمنية وعسكرية مع الخارج، أو تلقّي مساعدات وتبرعات مالية من دون إجازة، أو حتى إدارة حسابات مصرفية بطرق خاصة خارج أي قانون محاسبة عمومية، وفوق ذلك، التصرف بحرية التواصل مع العالم العربي والغربي لأجل الحصول على دعم مالي ولوجستي من دون استئذان السلطة التنفيذية، وصولاً الى استخدام تعابير كالتي سمعناها في خطابه أمام الضباط من نوع أنه لا يحق لأحد التدخل في عمل المؤسسة العسكرية، وكأنها مؤسسة خارج الدولة أو ليست تتلقى رواتبها من خزينة الدولة، أو أن الشعب انتخبه قائداً للجيش وليس مجلس الوزراء هو من عيّنه نزولاً عن رغبة الرئيس ميشال عون وإلحاحه.
اليوم، ثمة محاولة يجب التصدي لها كي لا يجري إدخال لبنان في مزيد من التجارب الفاشلة. ثمة أطفال في السياسة يحشون رأس القائد بمفاهيم وتصورات حول طريقة إدارة الأمن في البلاد وكيفية التعامل مع التظاهرات أو مع القوى السياسية أو مع الملفات الخاصة بموازنة الجيش أو التواصل مع الدول والعواصم الخارجية. وهؤلاء الأطفال ليسوا سوى انتهازيين يريدون انتزاع أدوار بالقوة، ويعتقدون أنهم وجدوا ضالتهم في قائد الجيش الذي يحتاج الى «مدنيين» لإدارة برنامجه السياسي.
صحيح أن لبنان يريد التخلص من «حكم الأزعر»... لكن واهم من يعتقد أن الحل ممكن أو منطقي عن طريق «حكم العسكر»!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا