أُعلن في بيروت، في 27 الشهر الماضي، تأسيس «تحالف حوكمة الطاقة في لبنان» الذي يضم عدداً من المنظّمات غير الحكومية. وهو تحالف يهدف، بحسب منسّقه جوليان كورسون، إلى «دعم السياسة العامة لقطاع النفط والغاز في لبنان، ويدعو إلى تعزيز الحوكمة وتحسين الشفافية والمساءلة في قطاع الطاقة عموماً، والنفط والغاز خصوصاً، وتحقيق التنمية المستدامة للأجيال المقبلة عبر تمكين القدرات التنظيمية للمجتمعات المدنية اللبنانية وتطويرها».ثلاثة مرتكزات أساسية وغاية في الغرابة قام عليها هذا «التحالف». فهو أولاً، كما حدّد هويته، «داعم» للسياسات العامة لقطاع الطاقة وليس معارضاً. وهمّه الأساس، ثانياً، الشفافية لا أصل المشكلة. وهدفه، ثالثاً، «تحقيق التنمية المستدامة للأجيال المقبلة»، مع أن الاستثمارات، موضوع «التحالف»، هي في مواد غير متجدّدة ولا مستدامة كالنفط والغاز!
انجيل بوليغان ـ المكسيك

في المؤتمر الصحافي الافتراضي نفسه الذي أُعلنت فيه ولادة «التحالف»، أُعلن أيضاً انضمامه إلى تحالف «انشر ما تدفع» العالمي، بما «يوفر له صدقية أكبر وحماية أعضائه ودعمهم، ويفسح المجال للمشاركة في المنتديات والنشاطات الإقليمية والدولية». وتموّل الوكالة النروجية للتعاون الإنمائي (NORAD) مشروع «انشر ما تدفع» لثلاث سنوات. وبحسب أهداف هذا التحالف الدولي، يتبين أن المقصود من شعار «انشر ما تدفع»، هو أن «تنشر الشركات العاملة في الصناعة الاستخراجية ما تدفعه للبلدان التي تعمل فيها»، أي إلزام الشركات بنشر كل المعلومات والأرقام المتعلقة بالقطاع بشفافية. وإذ يبدو الهدف نبيلاً في الشكل، إلا أنه يعاني من نواقص قاتلة، ليس فقط لأنه إسقاط لتجارب لا تمتّ إلى الحالة اللبنانية بصلة، بل أيضاً لأنه لا يتوجّه إلى صلب المشاكل التي تعاني منها الدول الضعيفة (كلبنان)، والتي تستبيح بيئتها وحقوق شعوبها شركات مستثمرة عملاقة تملك قدرات أكبر بكثير من قدرات الدول نفسها، فكيف الحال مع منظمات صغيرة داخل هذه الدول؟ وفي حالة لبنان، ما الذي تستطيع فعله منظمات مدنية صغيرة إذ كان هدفها «دعم» سياسات فاشلة في دولة فاسدة ومنهارة، كانت هذه «السياسات» أحد أهم أسباب انهيارها؟
إذا كان «التحالف» اللبناني يعرّف عن نفسه بأنه «داعم للسياسات في موضوع الطاقة» فهذا يعني أنه داعم لخيار فاشل في تأمين الطاقة ولخيار التنقيب عن النفط والغاز ولمنظومة التشريعات التي وضعتها الشركات لمصلحتها أولاً، وسلّمت بها الدولة الفاسدة والعاجزة، ولم يكن ينقصها سوى هذه التغطية السطحية من مجموعة من المنظمات غير الحكومية! وكيف تسمح هذه المجموعات الصغيرة من المنظمات - الأفراد لنفسها بادّعاء «توعية» المجتمع على حقوقه، فيما هي نفسها تحتاج إلى من «يوعّيها» على مخاطر سياسات الإدارة الرسمية لهذا القطاع، ولا سيما آثار خيار التنقيب عن النفط والغاز وانعكاساته غير المدروسة على الاقتصاد والبيئة والمجتمعات؟ وإذا كان «التحالف» يهدف إلى متابعة الملف بغضّ النظر عن السلطة التي تديره، فلماذا البدء من شفافية العقود وليس من صحة الخيار ومخاطره؟ ووفق أي أجندة تعمل هذه المجموعات التي لم تلاحظ أن كل ما من حولها ينهار بسبب فقدان الثقة وبسبب طبقة سياسية لا تؤتمن على قن دجاج وليس على قطاع ضخم كالنفط والغاز؟
تغطية سطحية من مجموعة من المنظمات غير الحكومية لسياسات فاشلة


إلى ذلك، على أي أساس تمّ اختيار هذه المنظمات التي ليست كلها معنيّة بهذا القطاع؟ ولماذا استبعدت مجموعات أخرى لديها تحفّظاتها عن هذا الموضوع في الأساس، وكانت أول من حذّر من المخاطر، ودعا الدولة إلى وضع استراتيجية شاملة للتنمية المستدامة تكون استراتيجية الطاقة جزءاً منها؟. إلا أن الدولة تجاهلت كل ذلك ولبّت شروط الشركات الطامحة التي تكفّلت بوضع الدراسات والقوانين وتدجين سياسيين وتأسيس جمعيات مدنية ملائمة وتدريب إعلاميين للمواكبة... مع كل ما يلزم لعقد الصفقات وتسهيل مرورها، بعدما ضمنت أنها ستنال حصة الأسد ولن تترك لنا غير التلوّث وتخريب كل القطاعات غير النفطية؟
الهدف «المركزي» لهذا التحالف هو «الشفافية» وكشف المعلومات. فما الإفادة من معلومات ستقدمها الشركات نفسها وليس أية جهة حكومية، بحسب القوانين التي وضعتها الشركات نفسها؟ وهل يبقى من معنى للشفافية في هذه الحالة؟
دخلت «الشفافية» كل القطاعات تقريباً، ولا سيما في السياسة والاقتصاد، كمفهوم «سحري» يؤكد على زيادة الديمقراطية والحرية، ولا سيما حرية تداول المعلومات. وادّعى مطلقو هذا المفهوم أن الهدف هو الحصول على الثقة وتعزيزها، حتى أصبح بمثابة «عقيدة» جديدة تجاوزت عقيدة التنمية بكل مندرجاتها في القرن الماضي. لا بل اعتبرها البعض أيقونة المجتمعات التي فُقدت فيها الثقة بين الناس والحكام. إلا أنها، في حالتنا، لن تكون إلا طريقاً إلى إحكام السيطرة على المجتمع ومقدّراته الطبيعية. فالمجتمع الشفّاف كالزجاج، تسهل مراقبته والتحكم به عندما تضمحل الدولة، كما يحصل عندنا. وبهذا المعنى، تتحول الشفافية إلى أيديولوجية للسيطرة. كما أن اختصار الشفافية بحرية الوصول إلى المعلومات والتداول بها لا يمتّ بشيء إلى زيادة الثقة واليقين. فكثرة المعلومات والأرقام لا تنتج معرفة، لا بل يمكن أن تطمس المعرفة حتى لو لم تكن معطياتها وبياناتها متناقضة. كما أن كثرة المعلومات لا تنتج بالضرورة قرارات أفضل، طالما أن من ينتج هذه المعلومات وينشرها هو نفسه، فيما ليس لدى الدول أو المنظمات المدنية الصغيرة القدرة على تحليلها وتقييمها، هذا في حال افترضنا دقّتها. والتجارب حول سلوك الشركات الكبرى التي تعمل في البلدان الصغرى كثيرة، ولا نظن أن «التحالف» العتيد اطّلع عليها كفاية، خصوصاً في البلدان التي تحولت فيها «نعمة» النفط إلى لعنة. أما في ما يتعلق باعتبار الشفافية ضرورة لبناء الثقة والتواصل، فإن «التحالف» نفسه لم يكن شفافاً، بعدما استبعده من النقاش (ومن صفوفه) الخبراء والجمعيات الذين يتحفّظون عن خيار التنقيب الاستخراج، ولا سيما في ظل حكم فاسد.
منذ لحظة ولادته، يبدو «التحالف» واضحاً في قراره اعتماد مقاربة إيجابية ليتم القبول به كمحاور أو مراقب لأعمال السلطة والشركات. ولكن هل هذا هو المدخل الصحيح لمقاربة هذا الملف؟ وهل الشفافية مفهوم مطلق لا يقبل النقاش؟ وهل المنظمات «الشفافة»، بحصر اهتمامها في حرية تدفق المعلومات وتداولها بإيجابية، تقصّدت القضاء على الاختلاف، ما يجعل من أعضاء «التحالف» مجرد موظفين داخل النظام الاستثماري، يبدأ عملهم مع تقاضي بدلات الأتعاب منذ لحظة الإعلان عن النفس؟ وكيف يمكن لتحالف «شفّاف» أن يكون «داعماً» لسياسات متهمة بالفساد أوصلت البلد إلى الانهيار الشامل؟ وكيف تكون مهمة «التحالف» تحقيق التنمية المستدامة وهو يشجع الاستثمار في موارد غير متجدّدة؟ ولماذا لم يبحث عن تحالفات أوسع، محلياً أو في دول حوض المتوسط، تتبادل معنا الحرص على إبقاء هذا الأبيض المتوسط، شبه المغلق، خالياً من تهديدات التلوّث الحتمية أثناء التنقيب وعمليات الاستخراج والنقل والتكرير والتخزين؟
في الخلاصة، المرحلة والظروف لا تحتاج إلى زجاج الجمعيات «الشفاف»، بل إلى زجاج غير قابل للكسر أمام ضخامة الشركات المستثمرة بأي ثمن. والأولوية لمراجعة السياسات التي وضعها جيش من الخبراء الذين يعملون لمصلحة الشركات أو كوسطاء بينها وبين مسؤولي الفساد، وفرض اعتماد استراتيجيات محافظة لتمرير هذه الظروف الصعبة، تمهيداً لإنتاج سلطة بديلة تتحمّل مسؤولية الحماية وضمان الحقوق من دون أن تكون شريكة في فساد الخيارات والاستثمارات.



من هو التحالف؟
يضم «تحالف حوكمة الطاقة»، الذي تأسّس بدعم من تحالف «انشر ما تدفع» الدولي (Publish What You Pay)، تسع منظمات غير حكومية تقول إنها «ناشطة وفاعلة في قطاع النفط والغاز، والحق في الوصول إلى المعلومات والسياسات البيئية والاقتصادية بهدف توحيد الجهود في سبيل تعزيز الحوكمة وتعزيز الشفافية وتفعيل أداء مختلف أصحاب المصلحة في القطاع». وهو يضم: «الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية - لا فساد»، «الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين»، «المبادرة اللبنانية للنفط والغاز»، «جمعية يوميات المحيط»، «مبادرة غربال»، «منظمة استدامة البترول والطاقة في لبنان»، «منظمة عدل بلا حدود»، «منظمة كلنا إرادة» و«نادي انشر ما تدفع» في جامعة سيدة اللويزة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا