رسمت «إسرائيل» مسار التفاوض غير المباشر مع لبنان، بشأن ما تسمّيه «خلافاً على الحدود البحرية مع لبنان»، وقررت النتيجة قبل أن يبدأ: تسوية تقضي بتنازل لبنان عن جزء من مياهه الاقتصادية لـ«إسرائيل».الثقة كانت كبيرة جداً لدى تل أبيب بأن التفاوض الذي بدأ في تشرين الأول الماضي وتوقّف قبل نهاية العام الماضي، سيحقق لها سلّة فوائد، تتجاوز البعد الاقتصادي ومسألة تقاسم الثروة الغازية.
إلا أن التفاوض غير المباشر، الذي كان واضحاً من البداية أنه فُرض على الجانب اللبناني، آل إلى الفشل وإن لم يرجع الطرفان في أعقابه إلى تموضعهما السابق. نجحت «إسرائيل» في تسجيل نقاط على الجانب اللبناني، في أنها جرّته قسراً، بمعيّة الإدارة الأميركية السابقة، إلى المسار التفاوضي، وفقاً للشكل والمضمون اللذين يتوافقان مع مصالحها. رغم ذلك، فإن النتيجة المؤمّلة إسرائيلياً لم تتحقق من خلال التفاوض، وفي مقدمتها إفهام اللبنانيين أن منع «إسرائيل» من فرض إرادتها عليهم لا يتحقق إلا عبر المسار التفاوضي والاتفاق معها، من دون اتباع خيار المقاومة وصدّ أطماعها.
في المقابل، نجح لبنان في أنه خرج من التفاوض مع تسجيل نقاط خاصة به في وجه العدو، إذ أظهر لها خطأ تقديراتها في أن الظروف الضاغطة قادرة على كسر الإرادة اللبنانية. وأتاح التفاوض فرصة إعادة دراسة الحدود البحرية الجنوبية، وجبر ما كان لبنان الرسمي غافلاً عنه ومن تمديده جنوباً، ما جعل المنطقة اللبنانية البحرية المطالب بها أكثر اتساعاً وثروة عما كانت عليه قبل بدء التفاوض.
كان الرهان الإسرائيلي على المفاوضات البحرية كبيراً جداً، وظنّ صاحب القرار في تل أبيب، بمعيّة حليفه الأميركي، أن الظرف الاقتصادي القاهر في لبنان يتيح لهما فرض إرادتهما ودفعه إلى التنازل. وقيل في ذلك الكثير إلى حد أن من في «إسرائيل» جزم بأن التنازل اللبناني حتميّ، وأن تقاسم المنطقة «المتنازع» عليها مسألة محققة، وأن الجهد يجب أن يتركّز على ما بعد الاتفاق، وتحديداً ما يتعلق بإمكان استثماره للإضرار بالمقاومة في لبنان.
وكانت «إسرائيل» مستعدة لتسوية تحقق الأهداف المرسومة لها، وربما في المقدمة إيجاد مادة سجال ومجادلة في الداخل اللبناني توسّع رقعة الخلافات، وتمكّن أعداء المقاومة وخصومها من التشكيك في جدواها وتقديم التسوية على أنها خيار بديل يحقق المصلحة اللبنانية. رغم أنه لا يرِد في قاموس «إسرائيل» أن تتنازل عن فرض إرادتها على لبنان، ما لم تكن تخشى التداعيات، بمعنى خشيتها من المقاومة.
يمتنع العدوّ عن إطلاق التهديدات بشأن الحدود البحريّة، لأنها تؤثّر سلباً على مصالحه مع شركات التنقيب عن الغاز


الآن، بعد فشل جولات التفاوض بحلّتها ورعايتها وضغوطها السابقة، باتت المعادلة مختلفة جداً. إذ يطلب العدوّ من لبنان، سلفاً وقبل معاودة الخيار التفاوضي ــــ على فَرَض معاودته فعلاً ــــ أن يتخلّى مسبقاً عن طلبه بحدّه البحريّ الجديد، وإلا فلا تفاوض. العودة إلى التفاوض مع تمسك لبنان بموقفه، لا تؤمن لـ«إسرائيل» أيّ جدوى كانت هي منطلق التفاوض وهدفه: الإضرار بخطّ المقاومة. ففي حال استحصال لبنان عبر التفاوض على كامل المنطقة المتنازع عليها، ناهيك عن حدّه البحري الجديد، فلا قدرة لدى «إسرائيل»، ومَن يتقاطع معها في لبنان، للحديث عن تسوية. سيكون الحديث والحال تلك، عن «تسوية صفرية» اضطرّت إليها تل أبيب، وجاءت نتيجة الشيء ونقيضه: إعلاء شأن خيار المقاومة في معرض محاولة الإضرار بها.
اللافت أن فشل المفاوضات لم يؤدّ إلى تفلّت تل أبيب وإطلاق التهديدات، بل حافظت على نبرة غير صاخبة وشددت على ضرورة العودة إلى المسار التفاوضي، ليس من أجل «إسرائيل» كما زعمت ــــ التي كانت ولا تزال تؤكد أن لديها ما يكفي من حقول غازية بإمكانها إشباع مصلحتها الاقتصادية ــــ بل من أجل مصلحة لبنان واللبنانيين! الوداعة وإبداء التعاطف وإعطاء النصائح كانت سمة الموقف الإسرائيلي، في موازاة الحرص المفرط على الامتناع عن إطلاق تهديدات والتسبب بمنازلة كلامية، وربما تصعيد بشكل أو بآخر، بين الجانبين.
كبح «إسرائيل» نفسها عن تهديد لبنان لا يمكن أن يعبّر عن وداعة وحسن جوار وتحسّر على المصالح اللبنانية، وهو ما ليس موجوداً في قاموس تل أبيب وتعاملها مع الآخرين، بل يعبّر عن خشية من أن يتسبّب التهديد بردّ تهديدي مقابل يوحي بأن النزاع متّجه الى تصعيد أمني بين الجانبين. وهي نتيجة لا تخدم المصالح الاقتصادية الإسرائيلية وترفع منسوب الخشية والمخاطرة لدى جهات الاستثمار الخارجي في حقول الغاز القريبة من الحدود مع لبنان، ما يؤدي بدوره إلى رفع كلفة التأمين عليها ربطاً بارتفاع منسوب المخاطرة، وهو ما يؤدي أيضاً الى رفع الاقتطاع من العائد الاقتصادي للخزينة الإسرائيلية، هذا إن لم يؤدّ إلى تريّث المستثمرين بشكل كامل، بكل ما يرتبط بالحقول القريبة من منطقة النزاع.
وحرص «إسرائيل» على أن لا تتسبّب بمنازلة تهديدية مع لبنان، مردّه الأساسي ليس مجرد التهديد المقابل الذي يأتي رداً على تهديداتها من لبنان، بل مردّه إمكان وربما حتميّة تدخّل حزب الله وردّه على التهديدات بتهديدات من جانبه هو، الأمر الذي من شأنه تغيير معادلة التهديدات وتأثيراتها، كونه يملك القدرة المادية على الردّ العسكري والإيذاء. والأهمّ أن لديه الإرادة لتنفيذ تهديداته إنْ وجب عليه ذلك. وهذه واحدة من نتائج امتلاك القدرة العسكرية في وجه «إسرائيل»، حتى من دون استخدامها الفعلي.
إذاً، انكفاء «إسرائيل» بعد فشل المفاوضات، وامتناعها عن تهديد لبنان، لا يتعلق بما تريد أن توحي به للبنانيين، بل يأتي نتيجة طبيعية لميزان الردع وفقاً للمعادلات مع المقاومة.
من هنا، بات بالإمكان تفسير نبرة وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شتاينتس، لدى سؤاله عن وقف المفاوضات البحرية مع لبنان، التي اتّسمت بالهدوء والحرص على عدم الانفعال وإعطاء النصائح والتشديد على أن «إسرائيل» تشعر بالحزن نتيجة معاناة اللبنانيين، وأنها لا تريد أن ينهار لبنان.
في مقابلة مع قناة الحرّة الأميركية، قال شتاينتس إن «الخلاف مع لبنان ليس بالخلاف الكبير، وإنْ استمرّ لأكثر من عشر سنوات. وإذا أظهر اللبنانيون بعض المرونة فستُظهِر «إسرائيل» أيضاً ذلك، وسنتوصل إلى حل». وقال أيضاً: «نحن لا نريد أن نرى انهيار لبنان ولا أن نرى الأزمة الاقتصادية أو السياسية، نحن نشعر بالحزن لرؤية ما يحدث في لبنان. «إسرائيل» لديها حقول غاز وتصدّر الطاقة، وليس لديها مشكلة في هذا الشأن، لبنان هو من يحتاج إلى الطاقة، ونحن لا نريد أن نرى انهياره، فهذا سيئ للبنانيين وسيئ للشرق الأوسط بأكمله، ولا نريد أن نرى كارثة سوريا تحدث في لبنان، لذا نتمنى إنهاء هذا الخلاف، ولكن على لبنان أن يظهر بعض المرونة والبراغماتية».
يبدو أن تموضع «إسرائيل» لم يتحرك كثيراً عما كان عليه قبل بدء التفاوض، ولا تزال تخلط بين التمني والواقع، مع تعذّر تقدير واقع لبنان وتأثير المتغيّرات، مهما كبرت أو صغرت، على قراراته وثوابته، وإنْ أصابت هذه المرة في الامتناع عن إطلاق تهديدات في الساحة البحرية ــــ الغازية، التي كانت ستنعكس سلباً عليها، بما يتعذّر عليها احتواء تداعياته.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا