في العادة، كان أي تحذير غربي تجاه مخاطر التوتر في لبنان، يتحول إلى مادة دسمة للمتابعة والاهتمام، فتتحرك السلطات المعنية لمواكبة خلفياته، وانعكاساته المباشرة، خصوصاً وقت اشتداد الأزمات، وارتفاع حاجة لبنان الدائمة إلى الدول الكبرى. لكن، مع ما يسمّيه أحد الاقتصاديين «انحلال البلد»، أصبحت التحذيرات المتتالية، ومن أيّ جهة أتت، كأنها لم تكن في نظر القوى السياسية، تماماً مثلها مثل الاعتراضات الشعبية على تدحرج الأوضاع النقديّة والاجتماعيّة. في أقل من أسبوع، وسّعت وزارة الخارجية الأميركية مستوى تحذيراتها الروتينية لرعاياها الراغبين في زيارة لبنان والموجودين فيه، وحذّرت مجموعة الدعم الدولية من مغبّة عدم تشكيل حكومة، وجدّد وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، المعروف بانطباعاته الحادّة تجاه المسؤولين اللبنانيين، موقفه المُنتقِد دوماً لهم، مصعّداً لهجته تجاههم. لكن في المقابل، لا تجد هذه التحذيرات أصداء لدى المسؤولين اللبنانيين، الذين ما عادوا يلقون أيّ اعتبار لما يصدر من تنبيهات سياسية رفيعة المستوى. علماً أنها لا تصدر عشوائياً، وهي تمثّل مواقع كان لبنان «يطرح الصوت» دوماً في اتجاهها لمساعدته في الخروج من أزماته، في وقت تتضاعف حاجته إلى المجتمع الدولي، لدعمه على المستويات كافة، وخاصة منها المالية والسياسية.يذكّر سياسي مرافق لمرحلة التسعينات، أن ما يحصل اليوم يشبه تماماً ما جرى حين كان رئيس الجمهورية ميشال عون رئيساً للحكومة الانتقالية، في قصر بعبدا. فرغم كل التنبيهات والتحذيرات المتتالية، تصرّف عون آنذاك بالطريقة نفسها التي يتصرف بها اليوم، رغم أن الوضع الداخلي ينهار بطريقة دراماتيكية، أكثر من التسعينات، ولو من دون قصف واقتتال داخلي. وكلّما زاد الضغط عليه زاد تشبّثه بموقفه ولو كان على خطأ. ولا يعني ذلك أن عون وحده يتحمّل مسؤولية ما يجري، اقتصادياً ومالياً، أو على صعيد تشكيل الحكومة. لكن الكلام عن رئيس الجمهورية، بصفته المعنيّ المباشر الأول والأخير، فيما هو يعزل نفسه أكثر فأكثر، داخلياً وخارجياً، ما يضاعف من الإرباك الذي يسيطر على إدارة قصر بعبدا للأزمة الحالية. في حين لم تعُد حركة الرئيس المكلف الخارجية تشبه، في مغزاها الحقيقي، الدور الذي كان يلعبه الحريري كما والده قبله في استثمار حضوره الخارجي، بل هو محصور بتحسين أوراقه المالية والسياسية عربياً.
المفارقة أن رئيس الجمهورية بادر وتحرك وخرج إلى العلن، بعد تظاهرات 17 تشرين، تحت وطأة استهدافه ورئاسة الجمهورية، وجدّد إيقاعه إثر انفجار المرفأ، في آب الفائت، مستفيداً من حجم التحرّك الخارجي تجاه لبنان ومساعدته إنسانياً. لكن بعد تطبيع الوضع وانسحاب المعترضين من الشارع، ومن ثم تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، تراجع مجدّداً دور الرئاسة، وانحصر دورها في السجال بينها وبين الرئيس المكلّف حول الصلاحيات والحصص الحكومية، أكان على حق أم على خطأ. هذا الانكفاء لم يعُد يمكن تبريره قياساً إلى حجم المخاطر التي تضاعفت منذ نهاية عام 2019 إلى اليوم، ويزيد من المفاعيل السلبية التي حفلت بها حتى الآن ولاية رئيس الجمهورية. فعدا عن كمّ المشكلات التي لا تُحصى مع انفراط عقد الحلفاء والأصدقاء من حول العهد الذي يقترب من انتهاء سنته الخامسة، كان من الطبيعي أن يؤدّي هذا الانكفاء إلى محاولات شخصيات التقدم للحلول في الصف الأول كقائد الجيش أو تسعى إلى طرح مبادرات كبكركي، إضافة إلى تصدّر التيار الوطني الحر مشهد المتحدث باسم الرئاسة. أما خارجياً، فعدا عن تردّي العلاقات العربية والأميركية مع الرئاسة، فإنّ ورقة العلاقة مع باريس في أقلّ تقدير لم تعُد في الزخم الذي كانت عليه. وما نتج عن تحرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفشل مبادرته، بدأ يترك أثراً في نظرة باريس ودوائرها إلى الرئاسة وما لم تحققه، رغم أن الخارجية الفرنسية تعمّم في تحميلها جميع المسؤولين مغبة ما وصلت إليه الأوضاع في لبنان. والمشكلة أن التوجّه نحو موسكو لخلق ثغرة ما، لا يمكن التعويل عليه، أو الاستعاضة به، ليس بسبب الافتقار إلى الدعم المالي وحسب، بل أيضاً لأن روسيا التي تقف دائماً إلى جانب لبنان، ترسم حدوداً معروفة لتدخّلها في التفاصيل الداخلية، من دون تخطّي أي لاعب إقليمي أو دولي. وهذه سياسة قديمة تنتهجها في لبنان. وصحيح أن وجود حكومة تصريف أعمال يفرمل صياغة سياسة خارجية واضحة ومنطلقة، إلا أن انكفاء الرئاسة أيضاً عن التعامل بجدية مع النصائح الدولية، ليس على قاعدة الالتزام غير المشروط بها، بل لتحريك عجلة الحياة السياسية والاقتصادية، يترك ارتدادات عكسية. في حين أنّ أيّ سقف يعوّل عليه للمساعدة، يبدأ بصندوق النقد ومن وراءه والصناديق الداعمة بما تمثل من عواصم، تجد في لبنان يداً ممدودة لطلب مساعدة ولا تجد أذناً صاغية لترجمة نصائحها.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا