في الردّ الأخير للرئيس المكلف سعد الحريري على منتقديه وتمسّكه بشروطه لتأليف الحكومة، الخميس، مفاجأتان غير متوقعتين في التوقيت، كما في الجهة المقصود مخاطبتها: السعودية وحزب الله. كلتاهما مشهود لهما تبادلهما الكراهية والاتهامات والتشهير والصدامات في أكثر من مكان، لكنهما عنده حاضنتاه ومقتله في الوقت نفسه. يحتاج إلى الأولى كي يكون زعيم السنّة في لبنان، مقدار حاجته إلى الثانية كي تثبّت له هذا الدور بينها وبينه في اللعبة السياسية الداخلية وتوازناتها المذهبية.مذ أن فاضلت المملكة بينه وأخيه بهاء - المنقلب عليه حالياً - كي يرث زعامة والده الرئيس رفيق الحريري وموقعه السياسي، في 20 نيسان 2005، بات عاملاً رئيسياً لا يُستغنى عنه في المعادلة السنيّة أولاً، ثم الوطنية ثانياً، دونما أن يكون أكفأ مَن يتبوّأ الدور وأمهرهم وأخبرهم وأفضلهم اتعاظاً. ليست الانتخابات النيابية مذذاك وحدها أكسبته الشرعية السنّية الفعلية في معزل عن مرجعية الرياض، على نحو مطابق للشرعية نفسها التي أعطتها المملكة لوالده كي يطلّ على المشهد اللبناني طوال أكثر من عقدين ونصف عقد من الزمن بالمال الوفير بداية، ثم بولوجه إلى السلطة، فإلى الزعامة السنّية من بعدها. تطلّب وصول الأب وثباته غير المستغنى عنه في حينه توازناً سعودياً - سورياً، مماثلاً لما سيحتاج إليه الابن في ما بعد بدءاً بالتحالف الرباعي المعلوم مع حزب الله. ثانية محطات الشرعية السنّية الفعلية، الميدانية، حازها بعد اتفاق الدوحة عام 2008 ما إن أصبح المُعادل المذهبي لحزب الله في الشارع والشريك السياسي المضمَر له في الحكم.
في ما بعد، في العهد الحالي، كان حزب الله ثالث الشركاء، غير المعلن، في تسوية 2016، ضامناً استمرارها حتى بداية الانهيار عام 2019. مع ذلك لم يتخلَّ عن الحريري.
نجح الرئيس الأب في ظل انتظام العلاقة السعودية - السورية. كذلك من بعده ابنه حتى عام 2010 مع حزب الله بانتقال دور دمشق إليه، قبل أن يدخل في فكيهما بعد ذلك التاريخ، وتتحوّل مرجعيتاهما إلى لعنة على الرئيس المكلف: إما يكون مع هذه، أو مع ذاك. في بعض المحطات فصل ما بينهما، فخسر السلطة كما يوم أطاحته عام 2011.
منذ تشرين الأول المنصرم، يوم كُلّف تأليف الحكومة، يحاول عبثاً التوفيق بين عدوين يصعب أن يُجمعا في صورة واحدة: يريد من الرياض مصالحته من دون تمكّنه من استجابة طلبها استبعاد حزب الله ومناوأته علناً له، وفي الوقت نفسه المحافظة على استقرار علاقته به وعدم استفزازه والتسلّح بدعم الثنائي الشيعي له.
السفير السعودي يُهمل الحريري ويجتمع بمناوئيه السنّة


مع ذلك، لكليهما عليه جميل الوجود والاستمرار.
لأكثر من أربعة أشهر خلت مع تكليفه، تجنّبت الرياض وحزب الله الخوض في هذا الاستحقاق في أدق تفاصيل السجالات اليومية المعتادة. الأولى التي لم تغفر له إفلاته من يديها قبل أربع سنوات قالت، مباشرة كما مداورة، إنها غير معنيّة بالتأليف وتنتظر الحكومة الجديدة كي تتّخذ موقفاً منها، ناهيك بعدم اهتمامها بما يجري في لبنان. ما عنته الرياض أن الموقف الذي يتخذه الحريري من حزب الله ورئيس الجمهورية ميشال عون وموقعيهما أو تأثيرهما في الحكومة المقبلة، هو الذي يبعث على تأييدها لها أو مناهضتها. لم ترفض تكليفه جهاراً، لكنها لا تفتح الآن أبوابها لاستقباله.
أما حزب الله، فقال إنه يأمل في حكومة في أقرب وقت ممكن، دونما إظهار انتباهه العلني حيالها أو التدخل في الصعوبات التي يواجهها التأليف. وازن في تأييده وتفهّمه بين وجهتي نظر رئيس الجمهورية والرئيس المكلف. بذلك عنى رغبته في تعايش الرجلين ومساكنتهما في حكومة واحدة، دونما تخلّيه عن أيّ منهما. ما ضمره الحزب أيضاً أنه يحكم على الحكومة في ضوء تركيبتها التي لا تؤذيه وتضرّ به أو تستهدفه.
على نحو كهذا، للمفارقة الاستثنائية، التقت السعودية وحزب الله على تحييد الحريري في مقاربتهما الاستحاق اللبناني. ليسا ضده لكنهما ينتظرانه. رد فعل الرئيس المكلف كان أشبه بصدمة.
بالتأكيد له معاناة شاقة مع المملكة لا يُحسد عليها، بدأت في الرياض عام 2017 ولم تنتهِ تداعياتها. لم يعد لديه ما يملكه هناك سوى بقاء عائلته في كنفها، واحتفاظه حتى الآن بجنسيتها. فَقَدَ شركاته المفلسة هناك، ثم عقاراته المطروحة في المزاد العلني. لم يعد يسعه الاجتماع بزوجته وأبنائه سوى في مكانين لا ثالث لهما بعد: أبوظبي أو باريس. ليس في جدول أعمال المملكة. بعض ما نُسب إليه في أوساطه قبل ذهابه إلى الإمارات للمرة الثالثة، أنه يعوّل عليها لترتيب موعد له مع وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان، أو يقتضي أن ينتظر عيد الفطر كي يفتح العاهل السعودي الملك سلمان صالونه الكبير لاستقبال مهنئيه، فينتهز مناسبة الوصول إليه ومصافحته والتقاط صورة لهما. لكن الأصل الذي يحتاج إليه قبل أي شأن آخر، إتاحة الفرصة أمامه لمقابلة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. في بيروت السفير السعودي العائد وليد البخاري لم يزره بعد، خلافاً للعادة، مع أنه اجتمع بمرجعيات دينية وسياسية، والتقى حتى شخصيات سابقة في تيار المستقبل هي اليوم في الموقع المناوئ للرئيس المكلف.
الأكثر مدعاة للانتباه في ما مضى، قبل التكليف وبعده، في مرحلة مهادنته حزب الله، مسارعته إلى الإدلاء بتصريحات تأييد للسعودية في كل مرة واجهت اعتداء على أراضيها ومنشآتها من حلفاء للحزب. أما ذروة إدارة الظهر، فتقيم في قوله الخميس إنه لا يطلب رضاها لتأليف الحكومة. في معرض الدفاع عن النفس وتبرير الذات المستقلة، يحمل تفسير هذا الموقف بُعداً قد لا يسهل على الحريري هضمه سريعاً.
لم يسبق له - كما لتاريخ عائلته الضارب الجذور في المملكة منذ عقد السبعينات في مرحلة صعودها كما هبوطها في بعض المراحل - أن اتّخذ أحد فيها، وخصوصاً والده الراحل موقفاً لا يسع غلاة المتعلقين بالمملكة سوى عدّه «نكراناً» أخلاقياً قبل أن يكون سياسياً. بيد أن تفسيره السياسي أيضاً قد لا يكون بسيطاً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا