هي نتيجة مألوفة ومتوقّعة، وباتت طبيعية جداً، في معادلة بناء القوة العسكرية للمقاومة. تسعى إسرائيل لـ«الحؤول دون»، وتهدّد بأنها «لن تسمح وإلّا»، ومن ثم تتراجع لتتعايش قسراً مع واقع جديد بات يكبّل يديها أكثر في مقاربة الساحة اللبنانية عسكرياً. هذه هي حال إسرائيل مع سلاح حزب الله الدقيق، بل وفائق الدقة، كما يرد أخيراً من تل أبيب.ما ورد في الإعلام العبري، وعلى لسان جهات رفيعة المستوى، يدفع إلى التهكّم. وفقاً لهذه الجهات: امتلاك حزب الله سلاحاً صاروخياً دقيقاً، وتحديداً ما بين 500 و1000 صاروخ هو سقف أعلى، إن جرى تجاوزه، فيلزم «إسرائيل» بالعمل.
حديث «الجهات الرفيعة المستوى» غير معلوم إن كان تهديداً أم «تعزية ذات». والمفارقة أنه يأتي بعد يومين فقط من حديث آخر لرئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، أكّد فيه أنه «لن نساوم على تطوير صواريخ عالية الدقة، في سوريا ولبنان».
في السابق، قيل الكثير إسرائيلياً عن الصواريخ الدقيقة. الويل والثبور لحزب الله وللبنان وللبنانيين، إن أبصر «مشروع الدقّة» النور وخرج من مرحلة «التفكير به» إلى مرحلة الإنتاج، وأي خطوة في هذا الاتجاه وفقاً للتهديدات «تُلزم إسرائيل بالعمل».
التهديد كان قاطعاً، وعلى لسان كبار المسؤولين الإسرائيليين، بل كان التهديد في حينه جزءاً لا يتجزأ وحاضراً دائماً لدى أيّ موقف أو تصريح يصدر عن شخصيات أو محافل أو مصادر في «إسرائيل»، تتناول الشأن اللبناني. أيضاً، رسائل التهديد نُقلت إلى لبنان عبر زائريه من شخصيات رسمية وغير رسمية وفدت إلى لبنان، ومنها من جاء خصّيصاً كي ينقل التهديد ويؤكد جديته، بأن «إسرائيل» لن تهتم ولن تقف أمام ما سيجري لاحقاً لأنها قرّرت أن تتحرك لضرب «مشروع الدقة»، إن لم يتوقف.
استمر «مشروع الدقة»، فيما استمرت «إسرائيل» بإيصال تهديداتها علناً أو عبر آخرين. وفي السياق، كانت تعمد بين الحين والآخر إلى طمأنة جمهورها عبر إنكار الواقع باللعب على الكلمات بأن «مشروع الدقة» لدى حزب الله هو «مجرد فكرة» لم تجد تعبيراتها العملية، وبالتالي لا إنتاج لصواريخ دقيقة حتى الآن. السبب كما كانت الأذن الإسرائيلية تسمع، هو إصرار تل أبيب وعملها على الحؤول دونه. وكان هذا الموقف، الموجّه إلى الداخل، خليطاً من الأماني وإنكار الواقع وقلة الحيلة وارتفاعاً غير معقول وغير محتمل لمقاربة متطرّفة، قد تقدم عليها «إسرائيل» في مواجهة «الدقة».
في السياقات، لجأت «إسرائيل»، إضافة إلى التهديدات، إلى العمل على إدخال الآخرين في المعركة ضد «الدقة». والجهة التي كان يُعول عليها كثيراً، هي الولايات المتحدة الأميركية، التي سارعت بطبيعة الحال إلى تبني مقاربة «إسرائيل» والاصطفاف خلفها وإلى جانبها، في المعركة على الصواريخ الدقيقة. فواشنطن معنيّة تماماً، كما تل أبيب، في الحؤول دون امتلاك الحزب هذا النوع من الاقتدار العسكري. ليس هذا القرار محصوراً بما يتعلق بأمن «إسرائيل»، وهو أولوية واضحة جداً لديها، بل أيضاً بما يتصل بأجندتها الخاصة بها في المنطقة، التي لا يمكن أو يصعب تحقيقها، مع تعاظم قدرة أعدائها على الإيذاء، إن لها مباشرة أو لأتباعها، الأمر الذي يعني السياسة الأميركية في الإقليم على أكثر من صعيد.
المساندة الأميركية كانت تهديدية واستخبارية، مع العمل على الداخل اللبناني كي يكون وقوداً للمعركة ضد حزب الله. ووسّعت «إسرائيل» مواكبة تحرّكها الدعائي الذي وصل إلى منابر دولية لعرض «المظلومية» وللحديث عن أماكن مختلفة في لبنان ينشط فيه «مشروع الدقة». والمفارقة أنه في الوقت الذي كانت فيه الحملة تستعر ضد الصواريخ الدقيقة، كان يقال للجمهور الإسرائيلي إن مشروع الدقة «مجرّد فكرة».
سعت إسرائيل أيضاً لتحقيق غايتها عبر تحريض اللبنانيين وبيئة حزب الله المباشرة على المقاومة، عبر سرديات مختلفة. من بينها تقارير شارك فيها رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، بشكل استعراضي، عما قيل إنها مصانع للصواريخ الدقيقة تنشط بين الأحياء السكنية. الغاية كانت الإشارة إلى الجمهور اللبناني أن حزب الله يتسبّب بتهديد له، عبر «زرع المصانع» بين المدنيين التي ستكون عرضة لهجمات إسرائيلية تدميرية. كان الأمل بأن يؤدي ذلك إلى انقلاب في لبنان والبيئة المباشرة للمقاومة على حزب الله وإن بوصفه مقاومة. وهو كما العادة، خطأ تقديري متوافق جداً مع أخطاء تقديرية إسرائيلية سابقة تتعلّق بالعلاقة بين حزب الله وجمهوره.
في كل سياقات «مشروع الدقة»، كانت إسرائيل تعمل وتعد العدّة، العسكرية والأمنية ورواية ما بعد الفعل على السواء، ضد الصواريخ الدقيقة لحزب الله. وكانت المحاولة الفاشلة في حي ماضي (شارع معوض)، في الضاحية الجنوبية لبيروت في آب 2019، واحداً من مساعي «إسرائيل» الأمنية التي تحولت نتيجة الفشل العملياتي من عمل أمني بلا بصمات دالة عليها، إلى عمل عسكري صاخب، أدى لاحقاً بعد الرد عليه إلى تكريس أكثر للردع في مواجهة العدو. كانت تل أبيب، حينذاك، أمام استحقاق غير سهل وما زالت، مع سجلّات وفرضيات وأفكار مختلفة وأحاديث عن ضغوط يعاني منها حزب الله، وأخرى ترى أن رد الحزب ليس أمراً حتمياً، أو أنه سيقتصر على أهداف عسكرية إسرائيلية وحسب، بما بات يُعرف بـ«جولة أيام قتالية». وحين كانت «إسرائيل» تجادل نفسها، كان إنتاج الصواريخ الدقيقة مستمراً.
لا يخفى أن أسهم العمل العدائي الأمني، وفي أحيان العسكري، كانت ترتفع ربطاً بمتغيرات تطرأ على الساحة اللبنانية والإقليمية، ظنت محافل القرار في تل أبيب أن بإمكانها لجم حزب الله أو تخفيف رده على اعتداءات قد تلجأ إليها ضد اقتداره العسكري الدقيق. في حينه، كانت أسهم الحرب مرتفعة، وألزمت المقاومة، كما بات معروفاً، باستنفار وحداتها المختلفة. كان الجانبان في تموضع حربي واضح. وكما العادة، عندما تدرك «إسرائيل أنها أخطأت تقدير فاعلية «الظروف» التي ترى أنها تضغط على حزب الله، تتراجع إلى الخلف، لتعود إلى سياسة التهديدات بلا أفعال.
التوثّب كان سمة السنوات الماضية، تماماً كما كان التوثّب المقابل للرد وربما المواجهة الواسعة اللاحقة على الرد. لم تكن المعركة تتوقّف. انتظرت «إسرائيل» الفرصة التي لم تأت. بل إن جاءت كما قدّرت، فوّت عليها حزب الله الفرصة، عبر إظهار إرادة وجدية الرد والذهاب بعيداً في أعقابه، مهما كانت التبعات.
معقولية الحرب، أو الأيام القتالية التي تؤدي إلى حرب، كانت تعلو وتنخفض وفقاً لتقدير توثّب العدو وقرار المواجهة لديه. ما حال دون المجازفة، ولا يزال، هو الكلفة والثمن اللاحقان على الاعتداءات، الأمر الذي أبعد العدوان، وإنْ أبقاه على طاولة اتخاذ القرار في تل أبيب من دون إبعاده بالمطلق.
في السياقات أيضاً، عمدت «إسرائيل» إلى تجزئة تهديد الصواريخ الدقيقة، وإن ظهّرت أن خطها الأحمر ثابت: لن نسمح بالسلاح الدقيق. الهدف كما كان واضحاً، وهو الداخل الإسرائيلي لطمأنته. قيل في البدء إن حزب الله نجح في توفير أجزاء من مكوذنات تصنيع الصواريخ الدقيقة، لكن ما زالت مكوذنات أخرى غير متوفرة. كان الهدف هو التأكيد على أن «مشروع الدقة»، رغم نجاحات حزب الله بالتزوّد بمكوّناته، ما زال «مجرد فكرة». من ثم تجاهلت إسرائيل وامتنعت عن الحديث عن المكوّنات، وعمدت إلى تجزئة التهديد الصاروخي الدقيق نفسه. وكانت هذه التجزئة تمهيداً لاقرار إضافي لم يعد الواقع يسمح بتجاوزه: هناك نوعان من التهديد الدقيق. يتعلق الأول بصواريخ موجودة في لبنان يُعمل على تطويرها كي تصبح دقيقة ومجنّحة وما إلى ذلك، والثاني يتعلق بتصنيع صواريخ تكون من الأساس دقيقة. وهنا جاءت التوليفة: الجزء الثاني أكثر تهديداً من الجزء الأول، وإن كان الجزءان تهديداً لا يُحتمل من ناحية «إسرائيل».
أعقب التجزئة إقرارٌ لاحق بأن حزب الله نجح في تطوير وتصنيع عدد محدود جداً من الصواريخ الدقيقة، التي لا تتجاوز عدد أصابع اليدين. ثم أعقب ذلك حديثٌ عن عشرات الصواريخ... ولاحقاً عن مئات. وما سيَرِدُ من المقبل من الأيام، واضح جداً وقابل للتقدير.
وللدلالة على حجم التهديد من ناحية إسرائيل، نعيد التذكير بأنه «يكفي أن يكون لديك عشرون صاروخاً دقيقاً لتغيّر وجه المعركة»، بحسب ما ورد على لسان أحد قادة العدو العسكريين، قائد المنطقة الشمالية السابق في جيش الاحتلال، اللواء يؤال سترايك، لدى إجابته على واحد من أسئلة الدقّة المتداولة في الكيان.
لفترة طويلة، واظبت «إسرائيل» على القول لجمهورها إن مشروع الصواريخ الدقيقة ليس أكثر من «فكرة»


في أخبار اليومين الماضيين، مفارقة مع ما ورد أمس. إذ أكد رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو أنه لن يسمح بصواريخ «عالية الدقة» في سوريا ولبنان. والمفارقة ليست إجمال سوريا في التهديد، بل إيحاؤه أن السلاح الدقيق غير موجود و«إسرائيل» لن تسمح بوجوده.
مع ذلك، معاينة كلمات نتنياهو كما وردت بالعربية على الموقع الرسمي لرئاسة حكومة العدو، من شأنها الإشارة أيضاً إلى نوع آخر من التجزئة، وإن من نوع آخر أكثر دقة. وفقاً لتهديده، «إسرائيل» لن تسمح بصواريخ «عالية الدقة». و«العالية» هنا هي الجديد في كلامه، فهل يقصد التفريق بين صاروخ دقيق مع هامش خطأ مترٍ أو مترين، وآخر مع هامش خطأ سنتمترات؟
ولكي لا نقع في خطأ التقديرات، والركون إلى امتلاك القوة و«إنتاجات» مشروع دقة الصواريخ وغيره من الوسائل القتالية الدقيقة، على أهمية ذلك، يشار إلى أن أصل امتلاك صواريخ متطورة لا يعني - ولا يمكن أن يعني - شيئاً من ناحية «إسرائيل»، إنْ لم تكن إرادة استخدام هذه القدرة موجودة، وهو ما تدركه تل أبيب جيداً، خاصة ما يتعلق منه بالموقف الدفاعي لحزب الله. وعلى هذه الحيثية تحديداً تدور معركة «إسرائيل» وتطلعاتها. وهي تتحيّن الفرصة لاستغلالها إنْ لاحت لها: متى؟ وكيف؟ وما هي مدة تأثير أي ضغوط على حزب الله أو أزمات أو غيرها مما يمنعه من تفعيل إرادة الرد على اعتداءات «إسرائيل»، الأمر الذي يتيح لها التحرك والاعتداء؟ المعركة الحالية بين الجانبين هنا، بعد أن كاد ما يغايرها ينتفي وبلا جدوى ملموسة في تحقيق النتيجة ضد حزب الله.
إذاً هي معركة على قراءة وتقدير نيات حزب الله وإرادته، وعلى قراءة وترقّب أي ظرف يمنعه من تفعيل قدراته رداً على «إسرائيل». في معركة كهذه، الخطأ وارد، ووارد جداً. إلا أنها طبيعة الأمور ونتيجة ملازمة لتوثّب دائم لدى عدو لا يرضى أبداً بتكبيل يديه ومنعه من فرض إرادته على الآخرين. فهل ما كفل إلى الآن منعَه عن الاعتداء العسكري، ينسحب أيضاً على المرحلة الراهنة؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا