واحدة من أهم استراتيجيات «إسرائيل» في مواجهة أعدائها هي تظهير إنجازاتها وطمس فشلها في مواجهتهم، في الحرب الصامتة المستمرة من دون انقطاع، التي تفعّل تل أبيب فيها ما أمكنها من أدوات: أمنية وسياسية واقتصادية، بل وايضاً إعلامية ودعائية، وأحياناً عسكرية بصورة خاطفة، مع تلقف فرص داخلية ومسارات وتغييرات لدى أعدائها.في هذه المواجهة، الدعاية جزء لا يتجزأ منها. وهي تهدف، من بين ما تهدف إليه، إلى تظهير قدرات «إسرائيل» ومِنعَتها بما يتجاوز ما لديها (من دون إنكار ما لديها). ومنها المسارعة إلى كشف قدراتها العسكرية والتطورات التي تدخل عليها أو تمتلكها حديثاً، بل وتظهير هذه القدرات، وإن كانت مجرد فكرة نظرية تسبق مرحلة الوجود والإمكان الفعلي؛ مضاعفة الحديث عن الإنجازات التقنية والفنية في مجال التسليح والقدرات العسكرية؛ تمجيد انجازات الأنشطة الأمنية العدائية ضد أعدائها عبر تظهيرها والعمل على حفرها عميقاً جداً في وعي أعدائها كما أصدقائها، بما يشمل جمهورها أيضاً؛ العمل على ترسيخ قدرتها الاستخبارية الـ«خارقة للطبيعة» في وعي أعدائها، وأنها تعلم كل شيء عنهم ومن حولهم ومن وراء وراء حدودها، إلى حدّ أنها تعلم النيات قبل أن ترد في الأذهان... واللائحة تطول.
ما يشذ عن القاعدة يأتي في العادة المتبعة لدى تحقق الفشل أو تلمس تحققه.، أي إن مقاربة العدو «التظهيرية» كما ورد هنا تشذ عن القاعدة لدى الفشل و/أو الإفشال، ومنها فشل مواجهة الأعداء عبر قدراتها الذاتية، بما يؤدي لاحقاً إلى محاولة تحريض الآخرين عليهم، مع كثير من التهويل والتهديدات والانفلات الكلامي الهادف إلى تحريك الآخرين لإنجاز - بطريقة أو بأخرى - ما فشلت هي في تحقيقه.
لدى اللبنانيين تاريخ طويل مع الكيان الإسرائيلي عاينوا فيه هذا الشواذ، وتحديداً الفشل في صدّ قدرات المقاومة، سواء عبر إعلاء مستوى التهديدات ووتيرتها أم عبر العمل على التحريض الداخلي أم عبر جرّ الآخرين إلى إنجاز المهمة، خاصة كما هو الوضع الآن في مواجهة ثبت فشلها فيها، و/أو أنها باتت مكلفة جداً ولا طاقة لها على دفع أثمانها إن قررت المضي قدماً والترقي إلى مواجهة عسكرية. هذه هي تحديداً الاستراتيجية المفعلة في مواجهة تسليح حزب الله وتزوده بالسلاح الصاروخي وغير الصاروخي، ذي السمات الدقيقة والموجّهة على اختلاف أنواعه.
والتحريض الممنهح عبر التسريبات والتصريحات بما يشمل «اللطم على الخد»، لا يقتصر بطبيعة الحال على الساحة اللبنانية، بل يمتد الى ما يتصل بها ضمن «استراتيجية الصد» في ساحات أخرى، بما يشمل سوريا والعراق وبطبيعة الحال إيران. الا أن سياسة التهديد عبر تظهير التوثب العدائي أو الشكاية و»المظلومية» لدى «إسرائيل»، هي في حد أدنى أيضاً دليل على الفشل الذي يَتْبع الانكفاء النسبي، وتحديداً الانكفاء العسكري. وعلى «جماعة» التحليل وتقدير المواقف والنيات الالتفات الى أنه كلما ازداد الصراخ والتحريض في تل أبيب، عنى ذلك أن مستوى الفشل ارتفع والقلق علا شأنه.
بالطبع لدى الكثيرين ممن يتموضعون في صف أعداء المقاومة، في الداخل كما في الإقليم، تفسيرات مغايرة للصراخ الإسرائيلي. وهي تفسيرات حاضرة دائماً وغب الطلب، تتلقف ما يرد من تهديد وتحريض من تل أبيب لتخويف جمهور المقاومة وبيئتها عبر الحديث المثقل بالتهويل عن توثب «إسرائيل» لشن حروب. وهو حديث جاهز يتكرر بين الحين والآخر في تماه مع استراتيجيات «إسرائيل» التحريضية، وأقله منذ عام 2006، إن لم يكن أبعد من ذلك.
زيادة صراخ العدو وتهديداته تعني أن يديه مكبّلتان أكثر من ذي قبل حيال شن اعتداء عسكري على لبنان


لكن مع صراخ إسرائيل وتهديداتها والتحليلات المعادية التي تبنى عليها، ثمّة تظهير، وإن غير مباشر، لإنجازات المقاومة في أكثر من اتجاه يتعلق بالقدرة العسكرية. وكذلك تظهير غير مباشر أيضاً، بمعنى الإقرار بفشل تل أبيب في صدّ ومنع هذه القدرات وتطويرها، والأهم، هو تظهير غير مباشر أيضاً لمستوى ارتداع العدو عن «المعالجة العسكرية» في الساحة اللبنانية، رغم تعاظم التهديد و«تفلت» تعاظمه.
وكما بات معروفاً، أو يجب أن يكون، كلما ارتفع الصوت الإسرائيلي عالياً مهدّداً لبنان وحزب الله، وتحديداً ما يتعلق «بدراسة الخيارات» وأن «كل هذه الخيارات موجودة على الطاولة»، عنى ذلك أنها فشلت وتفشل أكثر في المواجهة، وأن حزب الله يزداد اقتداراً ونجاحاً في تعزيز قدراته الدفاعية، الأمر الذي يحوّل التهديدات، وهو ما يجب أن يكون، إلى عامل من عوامل إراحة وطمأنة اللبنانيين وبيئة حزب الله المباشرة، بأن اليد الإسرائيلية مكبّلة أو باتت مكبّلة أكثر من ذي قبل، حيال شنّ الاعتداء العسكري المباشر على لبنان.



«سبق السيف العذل»
واحد من التقارير العبرية الموجّهة أخيراً للساحة اللبنانية، كما هو موجّه أيضاً للجمهور الإسرائيلي، تقرير ورد في صحيفة «معاريف» قبل أيام، يحذّر حزب الله ويطمئن الإسرائيليين، مع تهديدات مشروطة والكشف عن تدابير تظهّر الندية ومستوى الارتداع عن الساحة اللبنانية، وإن في معرض التهديد. في ما يأتي، أبرز ما ورد في التقرير:
«وفقاً لمصادر أمنية إسرائيلية، إن أقدم حزب الله على شن هجوم وأصاب جندياً إسرائيلياً، فخطة الجيش الإسرائيلي هي شن هجوم يؤدي إلى قتل عدد كبير من عناصر حزب الله. وهذه خطط طوارئ موجودة ومعدة لمواجهة هذه السيناريوات، لكن يجب على المؤسسة السياسية أن توافق عليها كي تنفذ، كما على الجيش الإسرائيلي نفسه أن يوصي بها.
الفرضية الموجودة في «إسرائيل» هي أن حرباً يبادر إليها حزب الله، هي سيناريو ذو احتمال ضعيف للغاية. لكن في ظل التوترات الداخلية، ونقاط الاحتكاك بين «إسرائيل» وحزب الله في سوريا، فإن احتمال التدهور إلى تصعيد غير مخطط له، هو سيناريو يجب أخذه بعين الاعتبار.
إلى جانب التحديات الماثلة أمام «إسرائيل» في سوريا والتمركز الإيراني في المنطقة، ترى المؤسسة الأمنية في تل أبيب أن مشروع الصواريخ الدقيقة لحزب الله هو التحدي الأكبر. المعضلة الكبيرة هنا هي إذا ما كان يجب العمل ضد هذا المشروع على الأراضي اللبنانية.
ستكون إسرائيل أمام مفترق طرق في تقرير إذا ما كانت ستعمل ضد هذا المشروع في لبنان أيضاً، لأن العمل ضده في لبنان قد يؤدي إلى حرب مع حزب الله».
ما ورد في «معاريف» عن العمل ضد مشروع الصواريخ الدقيقة لدى حزب الله، لا يمكن التعليق عليه سوى بأنه «سبق السيف العذل».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا