«ما يهم لا يمكن دائماً احتسابه، وما يمكن احتسابه ليس مهماً بالضرورة»، قالها ألبرت اينشتاين، وأعادها المؤرخ جيري مولر بصيغة مختلفة في كتابه «استبداد المقاييس» (The tyranny of metrics) الذي يتمحور حول نقد الهوس بالإحصاءات والأرقام، وكيف يهدد الاعتماد الأعمى على المقاييس المعيارية الكميّة كل مؤسسات المجتمع. باختصار، يقول مولر «هناك أشياء يمكن قياسها وأشياء تستحق القياس. لكن ما يمكننا قياسه ليس دائماً ما يستحق القياس وما نقيسه يمكن أن يعمينا عما يجب حقاً الاهتمام به. وغالباً ما يمنحنا القياس معرفة تبدو صلبة، لكنها مضللة». وهو يشرح، في كتابه، الأصول الفكرية والاجتماعية للهوس بالمقاييس، ويفنّد العيوب المتكررة في استخدامها، ويشدّد على أن استبدال التقدير والتقييم البشري بالارتكاز فقط على البيانات الكميّة يؤدي حتماً إلى الفشل، وأن الآثار الضارة لاستبداد الأرقام متعددة الجوانب، منها الانحراف عن هدف القياس والحث على التلاعب أو حتى الغش. ويوضح عبر أمثلة عدة كيف يتم التحايل على المقاييس. فقد لجأت مستشفيات في الغرب، مثلاً، إلى عدم إجراء عمليات جراحية للحالات الحرجة للإبقاء على نسبة وفيات منخفضة، وكي تضمن عدم احتساب الوفاة المحتملة في سجلّها! أما في المجال التربوي، فبدل التركيز على اكتساب المعارف، أصبح هدف التعليم هو الاختبار.انطلاقاً من ذلك، يمكن أن نذكر أمثلة كثيرة، في الاقتصاد والسياسة والتعليم، بشأن تحول القياس (أو المؤشر الكمي quantitative indicator) والتصنيف إلى هدفٍ بذاته، وكيف تفشل قراءة الأرقام حين لا تتلازم مع تحليل موضوعي يأخذ في الاعتبار طريقة الاحتساب والمعطيات والحيثيات.
ولعل أكثر ما يصدم المعنيين بالشأن العلمي والتربوي هو سطوة التصنيفات والاختبارات العالمية الموحدة التي جُيّرت وفق منطق تجاري لمصلحة الترويج الدعائي. لنأخذ، مثلاً، تصنيف الجامعات. إذ أن كل تصنيف يعتمد على مؤشرات كميّة تُحدّد وفقا لرؤية الجهة المصنِّفة بما لا يتلاءم حتما مع كل البيئات الأكاديمية، وبما لا يعكس بالضرورة الدور الذي تؤديه الجامعة في محيطها ومجتمعها. لتحسين تصنيفها، لجأت مئات الجامعات حول العالم إلى العمل على تحسين مؤشراتها بطريقة شكلية أو مصطنعة، كشراء الانتماء الوظيفي (تماماً كما يحصل مع لاعبي كرة القدم) لباحثين ذوي مؤشرات بحثية مرتفعة، ما ساهم في تقدم تصنيف الجامعة، من دون أن يقترن هذا الإنجاز الصُوَري بتغيير جوهري في تأثير الجامعة ضمن بيئتها الاجتماعية. وهذا دليل ملموس على إمكان التحايل على المقاييس وحرفها عن غايتها الأساسية. من جهة أخرى، يكفي إدخال مؤشرات مختلفة للحصول على تصنيف مغاير. وإذا اعتمدنا مؤشرات ذات أبعاد أكثر إنسانية، مثل أثر الجامعة في الارتقاء الاجتماعي أو مساهمتها في تعميم التعليم، ستكون النتيجة مختلفة كلياً. لذا، لا قيمة لأي قياس (أو تصنيف) إذا لم يقترن بتحليل المؤشرات المعتمدة وماهيتها ومدى ارتباطها بأولوياتنا وبما يستحق فعلا القياس.
أما في ما يخص الاختبارات الدولية الموحدة لطلاب المدارس، والتي يعلو الضجيج بسببها كلما أتت النتائج مخيبة للآمال وفق الرؤية الضيقة لبعض التربويين، فقراءة نتائجها لا يجب أن تقتصر على مجموع النقاط أو الترتيب وكأنهما المعيار الأوحد الذي يعكس مستوى الطلاب. مثلا، أثيرت أخيراً زوبعة بعد نتائج طلاب لبنان في الاختبار الدولي «اتجاهات في دراسة الرياضيات والعلوم الدولية» (TIMSS) لعام 2019 والتي اعتبرها البعض كارثية، فيما الكارثة الحقيقية هي عدم مناقشة الأرقام بعقلانية وضمن محدودية دلالاتها ومن خلال مقاربة ترتكز أكثر على التحليل، وعلى التقييم البشري بمعزل عن الانفعالات تحت وطأة التصنيفات. ومن دون الغوص في كل تفاصيل هذه الاختبارات، من الضروري عند تبني نتائجها أن نشرّحها بعيداً عن التهويل والإثارة، في ضوء عوامل عدة، مثل ملاءمة محتوى الاختبارات مع محتوى البرامج التعليمية في لبنان، تعوُّد الطلاب اللبنانيين على نمط الأسئلة المتّبع، كيفية اختيار العيّنة المشاركة في ظل التفاوت الصارخ في لبنان، ضعف التحضيرات والتدريبات قبل المشاركة (وما علينا سوى قراءة التقارير التي تتحدث عن التحضيرات في كوريا الجنوبية وسنغافورة مثلا)، إلخ. وهذه كلها عوامل ناقشها تربويون مخضرمون على دراية بواقع المنظومة التربوية ومكامن الخلل فيها (بالمناسبة هناك دول عدة لم تشارك لاعتبارات متنوعة مثل سويسرا والصين). وهنا تجدر الإشارة إلى الخطأ الذي ورد في المقال الذي نشر في «الأخبار» واعتبر الكاتب فيه أن Chinese Taipei هي الصين بينما هي تايوان!.هذا في التفسير المباشر، أما في التحليل، فلا يمكن علمياً لأي باحث تعميم الأحكام بالاستناد إلى مخرجات (outputs) محددة في ظل غياب التكافؤ في المدخلات (inputs)، والمنهجية العلمية تقتضي قراءة أولية للأرقام وقراءات تحليلية مقارَنة مع تشخيص التربويين ذوي الخبرة في مجال تطوير البرامج وطرائق التعليم وتدريب المعلمين والبنى التحتية والبعد الاقتصادي - الاجتماعي والسياسات الحكومية، والاستثمار الرشيد في التربية والتعليم والأبحاث.
بعيداً عن الشوفينية والمغالاة في مديح النبوغ اللبناني من جهة وجلد الذات والمبالغة في النقد الهدّام من جهة أخرى، كان من الأجدى تقييم أداء الطلاب اللبنانيين مع مراعاة المدخلات المؤثرة مثل الإنفاق على التربية (على سبيل المثال وبما أنه قياس كمّي متوفر). وبتمرين رياضي بسيط، يمكننا احتساب مؤشر جديد ذي مدلول نسبي مختلف، وهو متوسط النقاط التي حقّقها الطالب مقابل كل دولار أنفقته الدولة عليه. فوفقاً لمعطيات اليونسكو والبنك الدولي، يُنفق على تعليم الطالب سنوياً في المرحلة العمرية 12-18 سنة أكثر من 14 ألف دولار في سنغافورة التي حصدت المرتبة الأولى في الرياضيات مع 616 نقطة، وأكثر من 12 ألف دولار في فنلندا التي سجّلت 509 نقاط، وما يفوق 9 آلاف دولار في كوريا الجنوبية التي حصلت على 607 نقاط، وما يقارب 7 آلاف دولار في قطر التي حصلت على 443 نقطة. بينما لا يتخطى الإنفاق الـ 500 دولار في لبنان الذي حصل على 429 نقطة. من الواضح أن هذا المؤشر النسبي يؤدي إلى ترتيب لا يتوافق مع الترتيب الأولي لنتائج الاختبار، ويعطي الطلاب اللبنانيين مرتبة متقدمة بقوة عن الآخرين! ولكن، هل يمكن اعتماد هذا المؤشر علمياً على أنه دليل على تفوق الطلاب اللبنانيين في هذا الاختبار؟ طبعا لا، بل إنه مؤشر صيغ لغاية تحليلية ويقرأ من زاوية محددة، ومن خلاله يمكننا التأكيد على:
- أولاً، نقد أداء الطلاب ومستواهم الأكاديمي لا يمكن أن يبنى على نتيجة اختبار دولي بمعزل عن حيثيات المشاركة، وأن النتيجة في هذه الحالة تحديداً ترتبط بالمنظومة أكثر من ارتباطها بالطلاب، وأن المسؤولية تقع على الجهات التي قررت المشاركة من دون الالتفات لكل العوائق (شخصياً لا أرى جدوى من المشاركة).
- ثانياً، اعتماد نتائج اختبارات كهذه للحكم على المستوى العام للطلاب هرطقة تربوية لا ترقى إلى مستوى التقييم التربوي الشامل في مادة معينة بل تسمح فقط بتشخيص محدود لبعض المهارات.
-ثالثاً، أي تقييم تربوي موضوعي يجب أن يرتكز أولا على التقييم البشري وخبرة المعلمين والمعلمات. والملامة في حالة التقييم السيئ لا تقع على الطالب بل على الخلل البنيوي الذي يتمثل بغياب التربية والتعليم من سلم أولويات الدولة وتقصيرها في الاستثمار التربوي، وبضعف التطوير، وبتغييب التخطيط الاستراتيجي المبني على رؤية وطنية تحدد أولويات المنظومة التربوية وأهدافها (وهي مشاكل نعيشها عن قرب). كان من المفيد مثلاً، بدل التركيز على نتيجة الرياضيات والعلوم، التصويب على تفاوت النتائج بين الطلاب اللبنانيين وربطه باللامساواة وغياب العدالة الاجتماعية.
- أخيراً، قراءة المقاييس والأرقام لها إطار محدود، ويمكن اختراع أي قياس وفقاً لما نريد التصويب عليه. ففي حالة المؤشر الذي يحتسب نتيجة الاختبار نسبة للإنفاق على الطالب، فإنه يعطي ترتيباً متفوقاً بأشواط للطلاب اللبنانيين لكنه لا يعني أنهم الأفضل، بل يمكن قراءته (بتحفظ) على أنه دليل على وجود علاقة بين أداء الطالب والإنفاق على تعليمه! مع التحفظ أيضاً، من منا لا يذكر أن المنتدى الإقتصادي العالمي صنّف لبنان في المرتبة الرابعة عالمياً في تعليم الرياضيات والعلوم؟ وهذا دليل إضافي على وجوب الحذر عند الركون للتصنيفات والمقاييس سواء كانت لمصلحتنا أم لا.
في المقابل، هناك ما لا يقاس بالأرقام، مثل القدرة على التعلم في بيئة مضطربة، قابلية التأقلم مع أنظمة تعليمية متنوعة في الخارج، سرعة الاندماج في المنظومات البحثية (في مرحلة الدراسات العليا مثلا وما بعدها)، رغم تعليم مدرسي وجامعي يغلب عليه الطابع النظري، إلى ما هنالك من مؤشرات يجب أخذها في الحسبان عند تقييم الطلاب والمنظومة التربوية، وربما في حالتنا هي أكثر أهمية من التفوق في الرياضيات والعلوم.
بعيداً عن الكوانتوفرينيا، نعيش أزمة «أرقام» يلخّصها مصطلح «النفس الكميّة» أو «الإضطراب الكمّي» (Quantophrenia)، والذي يرمز إلى اللجوء المفرط لمقاربة الظواهر الاجتماعية والبشرية من خلال الأرقام، والمبالغة في إدارة الناس بالمقاييس والإحصاءات فقط. وهذه الميول الكميّة باتت تهيمن أيضاً في البيئة التربوية والعلمية، ويبدو جلياً أن الاختبارات الدولية الموحدة تساهم بشكل ملحوظ في الانحراف عن هدف التعليم، تماماً كما استنتج دونالد كامبل (أحد أهم أعمدة المنهجية وهو من وضع قانون كامبل الشهير): «عندما تصبح نتائج الاختبارات محور العملية التعليمية، فإنها تفقد قيمتها كمؤشرات على المستوى التعليمي وتشوه العملية التعليمية». وعليه، فإن التقييم التربوي يجب أن يرتكز على التقدير البشري، وعلى مقاربة أكثر إنسانية، ووفق معايير تراعي خصوصية واقعنا، كي يُبنى عليه تصوّر وخطط للتطوير وفق رؤية توازِن بين التوجهات العالمية وأولوياتنا المحلية، وبعيداً عن لوثة التصنيفات الدولية حين لا تفيدنا في مجابهة تحدياتنا الحقيقية والمصيرية، فالمقاييس والأرقام والتصنيفات، ينطبق عليها الإعلان الذي يلازم بعض المشروبات: للإستهلاك ولكن باعتدال!


*مديرة برنامج منح الدكتوراه في المجلس الوطني للبحوث العلمية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا