وجد سعد الحريري ضالته بادّعاء قاضي التحقيق العدلي في جريمة المرفأ، فادي صوان، على رئيس الحكومة المستقيلة. ليس مهماً هنا الاسم، كما لا يهمّ إن كان على عداء مع حسان دياب أو لا. المهم أن لا يفوّت الفرصة. بعد زيارة استعراضية قام بها الحريري إلى السراي الحكومي، بلا تردد أو خجل، استجمعت كتلة المستقبل قواها لمواجهة «مخطط احتواء وعزل الموقع الأول للطائفة السنية في لبنان، سواء من خلال التهويل على رئيس الحكومة والادعاء عليه في قضية المرفأ، أم من خلال التهويل على المرجعيات السياسية التي تولت رئاسة الحكومة خلال السنوات العشر الماضية».
برر المستقبل لنفسه حقه الطائفي انطلاقاً من أن الآخرين يبيحون لأنفسهم حقوق الدفاع عن مواقعهم وطوائفهم ووظائفهم ومكوناتهم، ويجيزون لأنفسهم أيضاً تعطيل البلاد سنوات وسنوات لتأمين فرص وصول الأقوى في طائفته إلى رئاسة الجمهورية، أو تعطيل الحكومات كرمى لعيون الصهر أو بدعوى فرض المعايير التي تجيز لقيادات الطوائف تسمية الوزراء واختيار الحقائب الوزارية والتمسك بالثلث المعطّل.
وصل الأمر بالكتلة إلى اعتبار الادعاء القضائي «خطة انتقامية من اتفاق الطائف الذي حقق المشاركة الفعلية في السلطة، وأنهى زمناً من الاستئثار بها والتفرد في إدارة مؤسساتها. خطة تستحضر الأدبيات الانقلابية في آخر الثمانينيات، لفرضها على الحياة السياسية والوطنية بعد أكثر من ثلاثين سنة على سقوطها».
عند هذا الحد لا يعود مهماً النقاش في السياسة. حتى البيان الصادر عن الهيئة السياسية في التيار الوطني الحر، التي رفضت فيه «المسّ بمقام رئاسة الحكومة وبأي مقام دستوري آخر، بالتزامن مع رفضها أن يتلطّى ‏أي طرف بأي موقع طائفي دستوري لحماية نفسه من المحاسبة عن أي ارتكاب أو فساد، بدءاً بمقام رئاسة الجمهورية»، لم يصل صداه إلى مقر الكتلة. بالنتيجة، بعد أن ظن البعض أن فرص الإنقاذ صارت قريبة، بمجرد تحريك ملف التأليف الحكومي، أدرك أن الأيام المقبلة ستكون أصعب. ولذلك، صار بديهياً أن الأزمة أكبر من أن تسمح بلقاء يجمع عون والحريري قريباً. وبالتالي، فإنه لا حكومة ستبصر النور قريباً. حتى إن البعض يردّد أنه قد لا نشهد حكومة مجدداً، مذكّراً بأن من تسرّع في «إقالة» حكومة حسان دياب، ظناً منه أن المبادرة الفرنسية ستعيد ترتيب الأمور بسرعة، يتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية ما وصل إليه البلد وما يمكن أن يصل إليه.
لذلك صار من السذاجة الحديث عن خلاف على معايير أو على الرؤية الحكومية، بل هو أبعد من ذلك بكثير. هو صراع سيزداد قساوة في الفترة المقبلة على الخيارات السياسية، في بلد انتهت فيه السياسة يوم ازداد عدد الفقراء وتوقفت عجلة الاقتصاد، وازدادت فيه الخشية من توقف الخدمات الأساسية. لكن كان لافتاً في هذا السياق تحميل تلفزيون "أن بي أن"، في مقدمة نشرته الإخبارية، المسؤولية إلى رئيس الجمهورية، مشيراً إلى أنه «بات معروفاً أن لا حكومة حالياً بعد الألغام التي زرعت أمام الرئيس المكلف سعد الحريري، الذي قدم تشكيلته النهائية لرئيس الجمهورية ميشال عون، وينتظر رفع الفيتو الرئاسي عن حكومته الموعودة». كما أشار إلى أن «ما يجري اليوم ليس تشاوراً حول تشكيل الحكومة، ما يجري هو تنازع على الصلاحيات، وهو أمر قد يجر البلاد الى ما هو أسوأ وأخطر».
فادي صوان ربما أخطأ، لكن خطأه ليس بالادعاء على رئيس حكومة ووزراء سابقين، بل في عدم ادعائه على كل المسؤولين عن بقاء نيترات الأمونيوم في المرفأ، من دون اتخاذ أي إجراءات للتخلص منها. لكن أحداً لا يعرف إن كان سيفعل. ولذلك تحديداً قطعت الطريق عليه، من كل المتضررين المحتملين، ولم يعد يملك من الخيارات إلا التنحّي أو توسيع دائرة المدّعى عليهم. لكن مهما كان الخيار، فإن ذلك لن يمحو حقيقة أن ثمة من استغلّ دماء ضحايا انفجار المرفأ في معركته السياسية. عاد حسان دياب إلى منزله من دون ضجيج، لكن ضجيج «المستقبل» لم يهدأ بعد، وهو فتح باباً على المجهول.
«المستقبل» تستحضر الحرب: عون ينتقم من "الطائف"!


تلك مسألة كشفت أن الحريري بتشكيلته الصورية لم يكن همّه البدء بمسيرة الإصلاح أو الإنقاذ كما يعد، بل أراد أن يمنع عنه الإحراج أمام الرئيس الفرنسي الذي يزور لبنان يوم 22 الجاري. ادّعاء صوان أعطاه المبرر ليقطع الطريق على أي فرصة للتأليف. صار واضحاً أن الحريري إنما يريد أن يحمل مفتاح التكليف في جيبه، منتظراً متغيراً ما، لا أحد يعرف إن كان سيأتي. لكنه إلى ذلك الحين، أراد أن يتأكد أن أحداً غيره لن يدخل السراي. على المقلب الآخر، فإن التيار الوطني الحر صار أكثر وضوحاً في تحديد أولوياته. منذ العقوبات على جبران باسيل، لم يعد من أولوية لديه سوى المعركة القضائية، حتى لو انتهت ولاية رئيس الجمهورية من دون حكومة. بالنسبة إليه تلك فرصته الوحيدة لإعادة إحياء «الإصلاح والتغيير». وهو لذلك يتمسك بالملفات التي رفعها وسيرفعها تباعاً إلى القضاء، من دون أن يستثني أحداً من خصومه، ولا سيما ثلاثي نبيه بري - سعد الحريري - وليد جنبلاط، فيما الآخرون يبدو أنهم بدأوا بإعداد ملفات مضادة.
كل تلك الصراعات تجعل القضية الأساس بعيدة كل البعد عن أي حلول قريبة. الانهيار الاقتصادي يتفاقم بشكل سريع، لكن أولويات السلطة مغايرة تماماً لأولويات الناس. ليس الإنقاذ على أجندة أحد، إن لم تسبقه مكاسب في السياسة.
ذلك أمر لا يتردد السياسيون في المجاهرة به حتى أمام زوارهم الأجانب. من يحذرهم من احتمال انفلات الأمور وانفجار الشارع يردّون عليه بالطمأنة إلى أن ذلك، إذا حصل، لن يشكّل أكثر من فورة وتنتهي. يدرك المسؤولون أن الأزمة الراهنة فتحت أبواب موجة جديدة من الهجرة، وهو للمفارقة ما يتعاملون معه بشكل إيجابي. هنا ليس ما يسمّى «هجرة الأدمغة» سبباً للقلق. فمن يهاجر هم "القرفانين" وهؤلاء (بوصفهم الأكثر استعداداً للتمرد) «من المفيد أن يهاجروا»! من جهة يجري التخلص منهم، ومن جهة ثانية يتراجع حجم الاستهلاك، ومن جهة ثالثة يرسلون دولارات طازجة إلى ذويهم!