المعنيان الرئيسيان بإخراج تأليف الحكومة وترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل من سباتهما، وهما الفرنسيون والاميركيون، قد لا يكونان مستعجلين عليهما إلا بالقدر الذي يتوقعانه. يريدان الاستحقاقين في نهاية المطاف. في الايام الاخيرة، لم يكن صعباً ملاحظة تداخل هذين الملفين، أحدهما بالآخر، الا بمقدار ما بدأ التشاؤم يحوم من حولهما. لا حكومة الا كما تطلبها فرنسا علناً. من غير أن يكون الاميركيون بعيدين تماماً عنها، ولا ترسيم بحرياً يخرج عن الشروط الاميركية، من غير أن تبدو باريس الاكثر التفاتاً الى الداخل اللبناني مهتمة به.يدير هذان المعنيان المباشران في الوقت الحاضر الأزمة اللبنانية بصعوباتها كلها، على نحو لم يعد في الامكان فصل مسار تأليف الحكومة عن مسار ترسيم الحدود، مع أن لكل منهما تفاصيله المستقلة عن الآخر، ومرجعيته الدولية.
ما يُنتظر أن تشهده الساعات المقبلة أنموذجا رقاد استحقاقين، قد يقصر وقد يطول.
أول الأنموذجين، انعقاد مؤتمر المساعدات الانسانية للبنان بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خارج أي برنامج إنعاش اقتصادي أو إنقاذي، واقتصاره على دعم اللبنانيين المتضررين من انفجار مرفأ بيروت قبل اربعة اشهر. لن تمر المساعدات هذه من طريق الحكومة اللبنانية، الا انها ستشكل طريقة التعامل الفرنسي والاوروبي معها على انها إدانة ليس للطبقة السياسية فحسب، بل للدولة اللبنانية برموزها كلها، على أن هذه هي القابضة على السلطة، المسؤولة عن انهيار البلاد مقدار مسؤوليتها عن الانفجار نفسه كما عن ضحاياه.
مؤشر ذلك أنه ليس في وسع ماكرون، من الآن الى موعد تسلم الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن سلطاته في 20 كانون الثاني، سوى تكرار مواقف الدعم السياسي وإظهار القدرة على مبادرات انسانية محدودة، وحض الطبقة السياسية على التخلي عن غطرستها وأنانياتها واستئثارها. يبرر ذلك الاعتقاد بأن تأليف الحكومة قد يكون مؤجلاً الى ذلك الموعد على الاقل، والمرجح أن يطول الى شهرين آخرين. لن تتوافر للفرنسيين حتى ذلك الوقت أدوات شغل فعلية لمبادرتهم، المعلقة منذ الاول من ايلول المنصرم. أولى تلك الادوات حكومة وفق المواصفات الفرنسية، لا تلك الجاري التفاوض المخفوت من حولها، كما لو ان الافرقاء اللبنانيين يؤلفون حكومة تشبه أياً من سابقاتها.

تصميم: سنان عيسى | انقر على الصورة لتكبيرها

أما ثاني الأنموذجين، فهو زيارة الوسيط الاميركي في المفاوضات غير المباشرة اللبنانية - الاسرائيلية، جون دوروشيه الذي وصل إلى بيروت مساء أمس. سيلتقي رئيس الجمهورية ميشال عون وقائد الجيش العماد جوزف عون ورئيس الوفد العسكري المفاوض العميد الركن الطيار بسام ياسين، آتياً من تل أبيب تحضيراً لتحرّك مكوكي ما بين طرفي المفاوضات. توحي زيارة دوروشيه للمسؤولين اللبنانيين، والقيادة العسكرية أول المعنيين، أنه سيخوض على طريقة ثلاثة من أسلافه السابقين في المهمة نفسها هم فريديرك هوف ودافيد ساترفيلد ودافيد شنكر، في مفاوضات غير مباشرة من وراء طاولة المفاوضات غير المباشرة التي بدأت في 14 تشرين الاول، وتوقفت خامسة جولاتها المقررة اليوم.
منذ أولى جولات التفاوض الجدي في 28 تشرين الاول، طرح لبنان على نحو فاجأ الوفد الإسرائيلي خط ترسيم رابعاً، غير مدرج في الخطوط الثلاثة التي بدا أنها ستكون وحدها بنود التفاوض. مع أن المفاوضات غير المباشرة هي الاولى بين لبنان و«إسرائيل» لترسيم الحدود البحرية بينهما، الا أن البنود المطروحة للتفاوض ترجّحت ما بين النقطة (1) والنقطة (23)، مروراً بخط هوف الذي فصل ما بين النقطتين بخط وسطي - للمفارقة أنه لم يطلقه من نقطة برّية بل من مسافة 3 كيلومترات بعيدة من البر داخل البحر - محاولاً إرضاء لبنان بـ60% (500 كلم) في مقابل 40% لـ«إسرائيل» (360 كلم).
مع أن ظاهر التفاوض غير المباشر عسكري تقني بحت، هو المهمة التي يتولاها الفريق اللبناني برئاسة ياسين، بيد أن ثمة تفاوضاً موازياً غير مباشر يتولاه الاميركيون مع المسؤولين اللبنانيين، وخصوصاً مع رئيس الجمهورية، مؤداه - وهي المهمة المنوطة بدوروشيه اليوم - أن من المتعذر على الوسيط الاميركي الدفاع عن الخط الرابع (الذي رسمه العقيد البحري مازن بصبوص والخبير نجيب مسيحي)، كما من غير المتوقع لـ«إسرائيل» القبول باستمرار التفاوض ما دام على طاولة المناقشات. حمل الاميركيون طلب تأجيل الجولة الخامسة، بيد أن الاسرائيليين - تبعاً للمعطيات المتوافرة لدى القيادة العسكرية - هم الذين رفضوا الذهاب اليها قبل سحب هذا البند.
ما يبدو واضحاً لدى القيادة العسكرية الآتي:
- خط النقطة (1) المرسوم عام 2007، وكان مدار تفاوض بين لبنان وقبرص باتت «إسرائيل» تتذرع به وتعدّه خطها البحري المقبول، صار بالنسبة الى لبنان من الماضي. هو خط وهمي على الخريطة ليس أكثر ولا مدار تفاوض. تعليمات القيادة الى رئيس الوفد واضحة: أي نقاش في النقطة (1) يجمع الوفد اللبناني أوراقه ويخرج من القاعة فوراً ويعود الى بيروت. وهو الموقف الذي يتمسك به ياسين في الأصل.
- سمع المسؤولون اللبنانيون مراراً رغبة الاميركيين في الاتفاق على خط هوف كحل وسط ينتظر موافقة لبنان. كان الحديث من حول هذا الخط تقنياً بادئ بدء مذ وضعه صاحب الاسم وتعاقب على التشجيع عليه ساترفيلد وشنكر. لم يكن وكيل وزير الخارجية الاميركية للشؤون السياسية دافيد هيل بعيداً من الاضطلاع بدور مشجع مماثل في زياراته الاخيرة للبنان قبل انطلاق التفاوض. كذلك فعلت السفيرتان الاميركيتان السابقة اليزابيت ريتشارد والحالية دوروثي شيا، دونما الخوض في المسألة التقنية عبر الحض على استعجال لبنان ترسيم الحدود مع «إسرائيل». تمسّك لبنان بخط النقطة (23) الى أن وصل الى الخط الرابع. ما يميّز أحدهما عن الآخر أن الاول يحرم لبنان جزءاً قليلاً من حقوقه الطبيعية في المياه الاقليمية، بينما الثاني يعطيه أكثر بقليل من حقوقه. لذا وضع الخط الرابع المنطلق من رأس الناقورة على طاولة المفاوضات غير المباشرة.
تأليف الحكومة وترسيم الحدود في رقاد قد يقصر وقد يطول


في حسابات لبنان أن النقطة (1) تُفقده 863 كلم تعيدها اليه النقطة (23)، بينما الخط الرابع المدعو «خط بصبوص» يضيف الى حصة لبنان المساحة المهدورة تلك زائداً 1430 كلم، فضلاً عن أنه لا يأخذ في الاحتساب صخرة تيخيلت التي تعدّها «إسرائيل جزيرة». ذلك ما ينطبق ايضاً على رفض «إسرائيل» النقطة (23) التي تقتطع من حقل كاريش.
مع أن رئيس الجمهورية، الموضوع ملف التفاوض بين يديه، هو أكثر مَن يتلقى الضغوط الاميركية للتساهل في الترسيم وتقديم التنازلات، تتصرّف القيادة العسكرية من منطلق مختلف تماماً سبق أن أدلت بدلوها فيه مع المحاورين الاميركيين: الخط الرابع رسمه الجيش وخبراؤه، وليس رئيس الجمهورية ولا حزب الله. التفاوض عليه ينطلق من الحقوق الطبيعية العادلة بلا أي إيحاءات سياسية.
- لا تخفي القيادة العسكرية معطيات إضافية مهمة وحتمية، وهي تجري التفاوض غير المباشر مع «إسرائيل»: أولها أن لا تفاوض من موقع ضعيف. ثانيها، تريد التوصل الى حل منصف للترسيم. ثالثها، تعرف أن عدّة الشغل العلمية والخرائط والحسابات والقياسات ضرورية وحتمية في ملف شائك كهذا، تختلف مقاربته في ترسيم الحدود بين بلدان وأخرى، ولا يصح ربطه بقاعدة واحدة يصار الى تعميمها. رابعها، أن لبنان يريد الاتفاق النهائي على الترسيم واستعجاله حتى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا