انتفض القضاة دفاعاً عن «كرامتهم». استنكروا اتّهام معظمهم بالفساد من قبل وزير الداخلية محمد فهمي، طالبين محاسبته. هالهم قوله في إطلالته مع الإعلامي مارسيل غانم، أول من أمس، إنّ ٩٥ ٪ من قضاة لبنان فاسدون. هزّهم تجرؤ الوزير القادم من المؤسسة العسكرية عليهم. شدّوا العصب على مجموعات الواتساب ووسائل التواصل الاجتماعي وببيانات متتابعة صدرت عن مجلس القضاء الأعلى ونادي القضاة تُدين وتستنكر. سبقهم المحامون إلى «الثورة» ضد قوى الأمن والوزير. استنكروا تعرّض زميلهم للاعتقال بالقوّة لمخالفته قراراً إدارياً. تسلّحوا بمقاطع مصوّرة تُظهر نصف الحقيقة. هددوا وأرعدوا وتوعّدوا بالتصعيد إضراباً حتى محاسبة الدركيين. ورغم نشر القوى الأمنية فيديو مصوّراً من كاميرا مراقبة في محطة المحروقات المطلّة على مكان الحادثة، بيّنت أنّ المحامي بادر إلى مهاجمة الشرطي عبر لكمه، إلا أنّ رجل القانون، بحسب دفاع المحامين، برر هجومه بأنّ الشرطي استفزّه كلامياً وشتمه، فهاجمه وضربه. هكذا بكل بساطة كرر المناط بهم حماية القانون تبرير الاعتداء. شتمه الشرطي فضربه! أكملوا هجومهم على قاعدة انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً من دون اكتراث إلى أنه بفعلته هذه تحوّل من صاحب حق إلى معتدٍ. ورغم أن «جسم قوى الأمن لبّيس» لكون كثيرين منهم يتعاملون بفظاظة مع المواطنين بحيث بات يُصدّق عنهم أي شيء، إلا أنّه لسوء حظ المحامين هذه المرة كان الأمر مختلفاً. غير أن ذلك لم يشفع لهم أمام المناط بهم الدفاع عن المظلومين. بل قادهم في ذلك نقيب المحامين، ملحم خلف، الذي لم يعتذر على اقتحامه فصيلة قوى الأمن لتحرير محامٍ ارتكب جرماً، رغم معرفته بأنّه كان البادئ. أصرّ الرجل على أن يسنّ سُنّة سيئة ليستعرض أمام المحامين والرأي العام لكسب الجمهور. فإذا كان نقيب المحامين يُبيح لنفسه مخالفة القانون، فلماذا لا يكون ذلك مباحاً أمام الجميع، وتحديداً أمام كل مرتكبٍ يعتبر نفسه محقّاً وفوق القانون؟توحّد «جناحا العدالة» ضد «حملة مشبوهة» تُشنّ ضدهما! وأولى الخطوات التصعيدية من القضاء، ردّاً على وزير الداخلية، كانت عبر محاكم السير في عدلية بيروت التي قرر قضاتها وقف تنفيذ محاضر السير التي تُنظّم بحق المحامين. كما أرسلوا كتاباً إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي يطالبون فيها بإيداعهم جميع المحاضر المنظّمة بحق المحامين. رغم أنّ العادة جرت على أن يعترض من يُحرَّر بحقه محضر ضبط يعتبره مخالفاً للقانون، أمام القضاء، لإلغائه أو تخفيضه. فضلاً عن أنّ العناصر الأمنية لا تُدوّن صفة الشخص أو مهنته على محاضر الضبط ولا تُصنّفها بحسب الوظيفة، إنما تكتفي برقم السيارة واسم صاحبها ونوع المخالفة.
على مجلس القضاء الحفاظ على كرامة القضاء، لكن عليه أيضاً حثّ القضاة على أداء واجبهم


ولدنة ونكايات وإدارات تُهاجم بعضها البعض. مظاهر تكاد تكون من أوضح معالم تحلّل الدولة وتفككها.
هكذا فجأة، بقدرة وزير داخلية، استيقظ أهل العدالة النائمة. استفزّهم هجوم موظف، برتبة وزير، عليهم. ورغم أنّ وزير الداخلية بالغ باعتباره أنّ ٩٥٪ من القضاة فاسدون، إلا أنّ «هزّة البدن» هذه كان لا بُدّ منها. نداء الوزير والإعلام والسجناء لأهل العدالة بأن «تطهّروا أيها القضاة» الذي تملأ أصداؤه أرجاء قصور العدل لم يأتِ بنتيجة قبل ذلك. لماذا اليوم اعتبر القضاة أنفسهم معنيين بنسبة الفساد التي تحدث عنها الوزير؟ وهل احتج الفاسد والنظيف، أم أنّ الانتفاضة لكرامة القضاء بداية للتغيير؟ وهل يقوم القضاة بواجبهم أصلاً ليحتجوا على تناولهم بهذا الشكل؟
القضاة لا يُريدون لأحد أن يعرف عنهم شيئاً. التفتيش القضائي نائم لا يُريد أن يستيقظ. محاسبة المقصّر من القضاة لا تُطبّق إلا على من لا ظهر سياسياً لهم. حتى إنّ حماة العدالة هؤلاء لم يعودوا يخجلون من واقع حالهم. اعتادوا التسليم بالأمر الواقع. لم ينتفضوا لأن أهل السياسة منعوهم من إمرار التشكيلات القضائية. لم ينتفضوا بسبب حال السجون واهتراء قصور العدل وتهاويها. لم يستفزّهم قوس العدالة المائل. قبِلوا بالظلم الذي يتسببون به بحق مئات السجناء الذين يُدكّون في زنازين أشبه بالمقابر. فهؤلاء هم الفئة الأضعف التي تكون في الدرك الأسفل من المجتمع، بحيث يمكن سحقهم من دون أن يسأل أحدٌ عنهم. هؤلاء القضاة، الذين يُنادي يعضهم بالاعتكاف، يريدون تعطيل مرفق عام ووقف مصالح الناس فقط لأنهم غاضبون. غير أنّ هؤلاء أنفسهم، الذين يُفترض التعويل عليهم في قيادة معركة مكافحة الفساد، لم يقوموا بشيء لتغيير الواقع المزري. منذ سنوات طويلة، منذ أكثر من عشر سنوات، يُنادي الجميع بتسريع المحاكمات، لكنهم لم يفعلوا. لم يكلّفوا خاطرهم وضع جدول زمني لتسريع إصدار الأحكام ووقف الظلم الذي يتسببون به بحق الموقوفين الذين قد يكون بعضهم بريئاً.
بالطبع، على مجلس القضاء الأعلى واجب الحفاظ على كرامة القضاء، لكن عليه أيضاً، وقبل ذلك، حثّ القضاة على أداء واجبهم. لماذا يُترك قضاة مقصّرون من دون محاسبة؟ لماذا يُسمح بأن يكون هناك قضاة عديمي الإنتاجية مع العلم بأن دوام القاضي غريب عجيب؟ قد يُفهم أن يأتي قاضٍ يعمل في محكمة الجنايات يومين في الأسبوع فقط، لأنه سيكون منهمكاً في ملفاته باقي أيام الأسبوع، لكن لماذا يُداوم قضاة محاكم السير ليومين فقط طالما أن عملهم بتّ محاضر السير من مكاتبهم؟
رغم كل ما تقدم، وهذا غيضٌ من فيض ما تتناقله ألسنة القضاة أنفسهم، ومعظمهم قضاة شرفاء يحلمون بقضاء قوي وعادل، ويؤرقهم وضع العدالة المريضة، إلا أنهم يرون أنفسهم عاجزين عن التغيير.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا