معروف تاريخياً عن منطقة بشرّي أنّه إذا وصل إليها «غريبٌ» ويفتح محلّاً للتجارة، «يُشجّعه» أهلها ويُصبحون من زبائنه. يُقال ذلك للدلالة على ميزة بشرّي كـ«حاضنة لكلّ لاجئ من أيام المماليك»، على ما يقول أهلها. السوريون الذين سكنوها وعملوا فيها بعد انتهاء الحرب الأهلية، والنازحون الذين لجأوا إلى المدينة وقضائها بعد بدء الحرب السورية، يُشكّلون جزءاً من هذا المشهد و«الهوية». لم تكن البيئة البشرّانية، عموماً، مُعادية للسوريين الذين عملوا في بساتينها وقطفوا تفّاحها وعمّروا بيوتها. ولم يسبق أن وقعت حادثة بفظاعة ما حصل ليل الإثنين، حين قتل السوري م. ح. ابن البلدة يوسف طوق. المشتبه فيه يعمل منذ نحو عشر سنوات ناطوراً في فيلا يملكها أقارب القتيل. وبحسب التحقيقات الأولية كانت بين الرجلين مشاكل شخصية مرّت عليها أشهر. ولكن حتى الساعة لم يُعرف «الفتيل» الذي أشعل النار بينهما، إذ لم يكن غيرهما في مسرح الجريمة ساعة وقوعها.قاضية التحقيق الأولى في الشمال، سمرندا نصار، أنهت أمس المسح الميداني لمكان الجريمة، ووجدت أنّ م. ح. أطلق «رصاصتين من مسدّس تركي عيار 9 مليمتر باتّجاه الضحية، وأتبعهما برصاصتين، فيما بقيت الطلقة الخامسة عالقة داخل المسدس». التصويب المُباشر على طوق من مسافة قصيرة، أدّى إلى «اختراق الرصاصات الأربع الكتف والخصر وتحت الإبط والصدر وهي الإصابة التي أدّت إلى الوفاة الفورية» بحسب تقرير الطبيب الشرعي الذي عاين الجثة. كما عُثر في المكان «على فأس صغيرة الحجم لم يُعرف ما إذا كان الجاني قد استخدمها خلال الإشكال السريع الذي وقع بين الجاني والمَجني عليه بدليل وصول الأخير إلى مكان الجريمة وركن سيارته من دون إطفاء محركها، كما أنّ شهودَ عيان أشاروا إلى حريق صغير شبّ في الأرض التي يملكها طوق قبل وقت قصير من وقوع الجريمة».
ما إن قُتل طوق، حتى «فَلت» الوضع. أدّت الجريمة إلى تفجير «غضب مكتوم» وعنصرية من البعض تجاه «كلّ» الشعب السوري. تحوّلت جريمة فردية إلى حفلة تحريض وتعرّض لعائلات سورية دُفعت إلى مغادرة المنطقة. ومن بين نحو 950 نازحاً وعاملاً سورياً لم يبق في البلدة أكثر من 400. نقاشات فُتحت حول «كثرة العمالة السورية»، وبدأ التحريض العنصري لطردهم. كما طُرحت إشكالية حمل المشتبه فيه لسلاح «من نوعية تركي»، لتنطلق التحليلات حول «خلايا نائمة» داخل البلدات، واتهامات لتركيا بالوقوف خلفها. ولكن، خلافاً لما تردّد في وسائل إعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، لم يُحرق أي مكان يسكنه سوريون. وقد سيّر الجيش دوريات ليلاً في المدينة، فيما سلّم المشتبه فيه نفسه إلى قوى الأمن الداخلي. وفي مقابل الأجواء المتوترة، ارتفع صوت «عقلاء» وضعوا الجريمة في إطارها، رافضين أن يتحوّل كلّ السوريين في بشرّي إلى «مُشتبه فيهم». كُثر جهدوا لمنع تطوّر ردّة الفعل، مانعين التعرّض لسوريين يعملون أو يسكنون لديهم. ومن بين الأهالي من استخدم الدين ليردّ الغاضبين: «نحن مسيحيون والدين المسيحي لا يقبل بذلك».
من بين نحو 950 نازحاً وعاملاً سورياً في المدينة لم يبقَ أكثر من 400


رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع ونائبا القضاء ستريدا جعجع وجوزف إسحق طالبوا في بيانين السلطات بـ «القيام بحملة تفتيش واسعة على تجمعات السوريين في المدينة والقضاء، للتأكّد من عدم وجود أي سلاح فيها أو مطلوب للعدالة»، ودعوا أهالي القضاء إلى «التزام القوانين، وعدم الانجرار إلى أي أفعال غرائزية». وازنت «القوات» في بيانيها بين التهدئة واستيعاب ردّة الفعل الشعبية، لكنّها وقعت في خطأ تحميل السوريين أجمعين مسؤولية شخص وُجد معه سلاح. فطلب تفتيش تجمّعات السوريين بحثاً عن «السلاح المُتفلّت» يضعهم جميعاً مرّة جديدة تحت المجهر، وكأنّهم وحدهم من يتسلّح، أو كأنّ من غير المُمكن أن يشمل تشكيل خلايا أفراداً من جنسيات مختلفة. الخطأ نفسه وقع فيه ويليام طوق. فبعد اجتماعٍ في منزله لفعّاليات من المدينة، أصدر بياناً جاء فيه «أنّنا شعبٌ لا نمتهن الانتقام من الأطفال والنساء في الأزقة ولا نهوى قطع الأرزاق بالاقتصاص من أعناق الأبرياء». لكنه وجدها مناسبة للتذكير بأنّه «منذ سنوات نناشد بوجوب ضبط وتنظيم اليد العاملة السورية في أرضنا، بعيداً عن دهاليز الاستثمار السياسي الرخيص في مسألة النازحين واللاجئين... ألم تُدركوا بعد أنّ الفارق شاسع وخطير جدّاً بين عامل يسعى لكسب رزقه بعرق جبينه وهو موضع ترحيب بين أهله هنا وبين مصطادي صفات النازحين وألقاب اللاجئين؟». ورأى أنّه «آن الأوان لتتحمّل السلطات الرسمية والمحلية مسؤولياتها في تنقية هذه المدينة من بعض العبوات المُعدّة للتفجير» في أي وقت، وذلك بـ«قرار فوري بإخلاء جميع السوريين من نطاق بشرّي الجبّة مؤقتاً ريثما يُصار إلى تحديد آلية دقيقة لضبط تواجد العمّال فقط دون عائلاتهم».
وفي السياق نفسه أتى بيان البلدية الذي استغرب وجود «أسلحة بيد من يدّعون العمالة في المدينة، وهل وجودهم هو فقط بهدف العمل أم أنّ هناك خلفيات أخرى؟»، مع الطلب من «جميع السوريين المتواجدين بشكل غير شرعي إلى مغادرتها فوراً». وطلبت البلدية من الأهالي «اتخاذ قرار تاريخي وجريء بتغيير وجه العمالة في استخدام اليد العاملة المحلية في القطاعات كافة».


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا