ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي تتدخل فيها الإدارة الفرنسية في الملف اللبناني. وليست المرة الأولى أيضاً ولن تكون الأخيرة التي تفشل فيها باريس في الوصول الى حل لأزمة لبنانية صرف، من دون تدخّل أي عناصر دولية أو إقليمية. وكل الثقل الذي وضعته الخارجية الفرنسية بالتعاون مع الإليزيه في رسم خريطة طريق قبل انفجار المرفأ وبعده، ضاع تحت وطأة تدخلات لبنانية وطموحات شخصية فرنسية ولبنانية لتسجيل خروقات في غير محلها.إحدى مفارقات التدخل الفرنسي أن شخصيات لبنانية تنتمي «ثقافياً وحضارياً» الى الخط الفرنسي الفرنكوفوني ومعروفة بعلاقتها الجدية بدوائر أساسية فيها، تتحدث عن هذا الالتباس الحاصل حالياً في مقاربة فرنسا لحل الأزمة اللبنانية. لا بل إن بعضها يستعيد علاقات الأحزاب الفرنسية الحاكمة بلبنان، منذ الاستقلال مروراً بتقاطعات فرنسية، وتموضع سياسي وإعلامي خلال الحرب الأهلية منذ عام 1975، لم تنظر إليه، الأحزاب اليمينية خصوصاً، بعين سويّة، وصولاً الى مرحلة علاقة فرنسا اليمينية مع الرئيس جاك شيراك بالرئيس الراحل رفيق الحريري وورثة هذه العلاقة بين بيروت وباريس، علماً بأن التسعينيات شهدت خرقاً حققه الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في حمايته العماد ميشال عون، الذي كان قد أرسى علاقة عسكرية وثيقة بين فرنسا والجيش اللبناني على أكثر من مستوى. وهذا الأمر انسحب لاحقاً على علاقة دوائر فرنسية بالتيار الوطني الحر. وليست وحدها لائحة المرشحين الرئاسيين التي أصرت باريس على البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير وضعها، علامة فشل فرنسي في لبنان، أولاً بتأثيرات أميركية، ومن ثم خليجية وإيرانية، بل سبقتها وأعقبتها لقاءات كسان كلو، وحوارات ثنائية وموسعة من شخصيات الصف الثاني والأول في لبنان وباريس لم تفضِ الى أي نتيجة. صحيح أن الأزمة الحالية بعناصرها المالية والاقتصادية الحادة مختلفة عن مرحلة ما بعد عام 2005، لكن التنبيه الفرنسي من حرب في لبنان إذا تعثرت مسارات الإصلاح، يتكرر اليوم بطريقة مختلفة. ففي عامَي 2007 و2008، حذّر وزير الخارجية الفرنسي آنذاك برنار كوشنير من حرب أهلية إن لم تنجح الحوارات قبل انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود وبعده لانتخاب رئيس جديد.
وإذا كان فشل أي مبادرة للإنقاذ سينعكس حكماً على اللبنانيين وليس على الفرنسيين، لكن صورة فرنسا هي التي تهتزّ، لأنها تغامر برصيدها في لبنان على مستويين. الأول لبناني محض. فالانطباعات الإيجابية التي خلقتها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان بعد انفجار المرفأ، وانعكست مبادرة سريعة في الجانب الإنساني، تبدّلت، لجهة الانقلاب الذي جرى فرنسياً على الخطب في الزيارتين الرئاسيتين الأولى والثانية. فجوهر المبادرة الفرنسية أفرغ من مضمونه، والتذرّع بالانقسامات داخل الفريق الفرنسي الواحد بين بيروت وباريس، لا يعطي مطلقاً إشارة مشجعة. اتهامات أولى صدرت بمحاباة فرنسا لحزب الله، ومن ثم للرئيس سعد الحريري، ولاحقاً لجميع القوى السياسية التي انتقدها ماكرون وعيّر اللبنانيين بأنهم هم الذين انتخبوها. فعودة الحريري رئيساً مكلفاً، نسفٌ فعليّ لكل الكلام الفرنسي حول مكافحة الفساد، وتدخّل باريس في تسمية شخصيات لبنانية لمناصب متعددة ليس منزّهاً عن الشوائب. فأي تسمية بناءً على تزكية لبنانية في بيروت أو باريس، هي بمثابة تعميم لمواصفات نزاهة ليست موجودة حتماً لدى بعض المرشحين. هناك من جرت تزكيته لوزارة الداخلية، لا يتمتع بأي من المواصفات المطلوبة، لا بل العكس تماماً، وأيّ تبنّ فرنسي له ولغيره ممن يملكون سجلاً معروفاً، يعني أن ظلماً سيقع على كل مرشح آخر يتمتع بالنزاهة والكفاءة، لمجرد أنه تساوى مع غيره في لائحة المرشحين المطلوبين. هناك أسماء كل رصيدها أنها تتمتع بعلاقات جيدة بالإدارة الفرنسية، وأسماء رغم كفاءتها، هي مجرد «باش كاتب» عند الفريق السياسي الذي زكّاها، كما كانت الحال مع جميع الذين سمّتهم الأحزاب سابقاً. هذا فضلاً عن الانغماس الفرنسي الكلي في موضوع مؤتمرات دعم وتمويل، لا يمكن تنزيه أي من المسؤولين اللبنانيين عن تورطهم في بناء ترتيبات مع شركات فرنسية.
تقريش المساعدات في مؤتمرات دعم لن يتمّ إلا عبر دول مانحة، عربيّة تحديداً


الأمر الثاني هو على مستوى علاقات باريس الخليجية والعربية. فتدخل فرنسا في لبنان لا ينفصل عن الإطار الإقليمي. سابقاً، حاولت فرنسا توسيط مصر، والسعودية دائماً وأبداً. فهل يمكن مثلاً تجاوز صفقة السلاح السعودية ــــ الفرنسية للجيش اللبناني التي توقفت؟ هناك مصالح فرنسية مع دول الخليج العربي، ولا سيما في مرحلة حساسة تبدأ من المتوسط وتنتهي في القوقاز، تخوض فيها باريس معارك في وجه التمدد التركي، والدفاع عن أرمينيا وتراثها المهدد في ناغورني كاراباخ، واليونان وقبرص وسط أصوات تطالب بضم رسمي للجزء التركي منها، وأصوات تعتبر وضعه شبيهاً بناغورني كاراباخ. كل ذلك يشكّل سلسلة متشابكة، لا يمكن القفز فيها فوق الدور العربي والخليجي الذي تحتاج إليه فرنسا، وظهر بجدية في حملة جمع الدعم لعملية مكافحة الإرهاب فرنسياً وأوروبياً. وهذا الأمر نفسه ينسحب على لبنان، إذ إن أي تسوية مختلّة التوازن، ومن دون تغطية عربية، لن تحمل فائدة سياسية كبرى، ناهيك بالفائدة المالية. فمهما بلغ الاهتمام الفرنسي، إعلامياً وحفلات تضامن وتغطية واسعة، يبقى تقريش المساعدات عينياً، وتمويل أي مشاريع مؤتمرات دعم، كما حصل في مؤتمرات سابقة، أو مساعدات عاجلة لن يتم إلا عبر دول مانحة، عربية تحديداً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا