منذ تكليفه بتأليف الحكومة، نجح سعد الحريري في تثبيت قاعدة جديدة في التأليف، يعتبر أنها تعيد الاعتبار إلى الدستور. تشير المادة ٥٣ إلى أن رئيس الجمهورية يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تأليف الحكومة. لذلك، يبدو الحريري حتى اليوم غير معني بلقاء رؤساء الكتل النيابية، للتشاور بشأن حصصهم رغم التواطؤ الضمني مع غالبيتهم في مرحلة التكليف. هذا يقوده إلى التحرر من لقاءات لا يحبذها في هذه الفترة، ولا سيما لقاء رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. اللافت أن الأخير، كما رؤساء الكتل، يبدون تجاوباً مع هذا التغيير على أن يكون الرئيس المكلف واضحاً في مآربه هذه المرة. ففي اللقاء «البروتوكولي» بين باسيل والحريري خلال الاستشارات غير الملزمة، تمنى باسيل تأليف حكومة تكنوسياسية من دون مواربة ومفاوضة القوى على هذا الأساس بشكل مباشر، من مبدأ عدم إعادة المحاصصة المقنّعة في حكومة حسان دياب ما دامت الأحزاب ستسمي الوزراء في النهاية. على أن أي حديث عن التأليف لم يحدث بين الاثنين، بل بقي النقاش في التأكيد على المبادرة الفرنسية ومقتصراً على اللياقات المتبادلة، إذ اطمأن الأول على صحة الثاني بعد إصابته بكورونا، فيما سأل باسيل الحريري عن سبب فقدانه الوزن وعما إذا كان الأمر يعود الى «حمية غذائية أو عا فراقنا». وفي انتظار ما ستؤول اليه مفاوضات هذا الأسبوع، تشير مصادر مطلعة الى أن الحريري يعمل مع رئيس الجمهورية ميشال عون على تثبيت القواعد الأساسية للتأليف من ناحية عدد الوزراء والمداورة في الحقائب. في هذا الصدد، لم يعارض عون المداورة، بل أكد أن غالبية الكتل، باستثناء حزب الله وحركة أمل، طالبوا بها. وعليه، قد يتم «استثناء» وزارتَي المالية والصحة. وفيما كان باسيل ينادي بالمداورة الكاملة أو اللامداورة، انتهى الى تأكيد موافقته على ما يوافق عليه رئيس الجمهورية، لينتقل السؤال الرئيسي هنا عما اذا كانت حصة التيار ستكون مشمولة ضمن حصة الرئيس أم أن عون مستعجل لتأليف حكومة وتسهيل تأليفها حتى لو أصرّ الحريري على عدم مشاورة باسيل بشكل مباشر؟في ميزان التيار، لا شيء محسوم حتى الساعة. يتعلق الأمر قبل أي شيء آخر بطريقة تعامل الحريري مع الأحزاب: من منظار شخصي، أي بإيجابية مع من سمّاه في مرحلة التكليف وثأر من الباقين، أم وفقاً للتوازنات النيابية وحجم كل تكتل مع احترام خيار هذه الكتل في تسميته أو لا؟ لذلك، عاد التيار خلال الأسبوع الماضي الى التذكير بضرورة اعتماد «وحدة المعايير» في التأليف، ما يسقط فعلياً «الفيتو» العوني على دخول الحكومة مع الحريري. يبدو موقف التكتل ضبابياً في هذا الشأن، فمن جهة ينادي بحكومة تكنوسياسية ويريد الاطلاع على برنامج الحكومة قبل المشاركة فيها، ومن جهة أخرى تشير الأجواء المشاعة إلى عدم رغبة في عرقلة إيجابية التأليف وتفهم أولوية الرئيس عون بتأليف حكومة بأسرع وقت ممكن والقيام بإصلاحات جدّية ليختم بها عهده. وهنا ثمة خلاف بين التيار والحريري على موضوع الاصلاحات، حيث يقول الرئيس المكلف إنه ملتزم بالمبادرة الفرنسية حرفياً وبما يطلبه صندوق النقد، فيما تنسف خطوطه الحمر الموضوعة حول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وسياساته النقدية ادعاءاته. فمن جهة التيار، «الأسباب نفسها ستوصل الى النتائج نفسها. ولا يمكن فصل الاصلاح عن تغيير جذري في السياسات المالية والنقدية، وعن تحمل مصرف لبنان والمصارف مسؤوليتها عن الانهيار الحاصل، بحسب ما أكده الرئيس الفرنسي، وكما نصت المبادرة الفرنسية ووفق توصيات صندوق النقد والمستشار المالي للدولة شركة لازار». لكن باتت المبادرة الفرنسية «شمّاعة، كلّ ينتشلها للجهة التي تريحه وتناسب مصالحه».
ينادي التيار باعتماد وحدة المعايير في التأليف واحترام التوازنات البرلمانية


وتنفي مصادر قريبة من التيار دخول أي رجل أعمال، وتحديداً علاء الخواجة، على خط الوساطة بين باسيل والحريري، فلا تواصل مباشراً أو غير مباشر بين الطرفين: التيار خارج المفاوضات حتى الآن، لكن الموقف من رئيس تيار المستقبل يتحدد وفق برنامجه ومدى التزامه بالاصلاحات المطلوبة ما دام قد فرض نفسه «الشخصية السنية الوحيدة القادرة على الترشح في ظل عدم قدرة أي طرف سياسي على دعم أي شخصية أخرى في وجهه»، علماً بأن التيار يبدي ثقة مطلقة بمشاورات التأليف التي يقودها الرئيس عون مع رئيس الحكومة وليس بوارد التشويش عليها، وقد فهم من أوساط الحريري أنه يرغب في التأليف قبيل موعد الانتخابات الأميركية من منطلق الاستفادة من انشغال واشنطن بأوضاعها الداخلية. أما رئيس الجمهورية «فمرتاح إلى إيجابية الحريري وجدّيته في العمل هذه المرة».
ثمة من يلفت هنا الى أن الحريري لم يعمد الى مشاورة أي جهة سياسية بعد، لا التيار ولا غيره، رغم الحديث عن وعود للمردة والطاشناق والسوري القومي الاجتماعي بتمثيلهم كرد جميل لتسميته. وثمة في قوى 14 آذار من ينقل عن الحريري نيته لقاء رؤساء الكتل هذا الأسبوع بعد الانتهاء من قواعد التأليف مع رئيس الجمهورية. وطالما أن الرئيس المكلف لم يلتق بمعاون الرئيس نبيه بري، النائب علي حسن خليل، ومعاون السيد حسن نصر الله، حسين الخليل، فإن أي حديث عن مقاطعة باسيل لا يعوّل عليه. لا بل إن كل البوادر تشير الى قبوله بجميع الشروط التي طلب من مصطفى أديب رفضها، بدءاً من الحكومة الموسعة الى تسمية الكتل للوزراء وصولاً الى قبوله بعدم المداورة في ما خص وزارة المالية. وترى هذه المصادر أن باسيل تمسّك بمواقفه حتى الساعة، انطلاقاً من ثلاث نقاط:
1- عدم تسمية الحريري انطلاقاً من قاعدة اعتراضه على مبدأ تأليف رئيس كتلة سياسية لحكومة اختصاصيين ولأنه ليس رجل المرحلة وغير قادر على إنجاز أي إصلاح.
2- نجاح حملة التيار السياسية ضد ما اعتبرته أوساطه «تحالفاً إسلامياً جديداً في وجه المسيحيين وعودة الى الترويكا الحاكمة في زمن رستم غزالي»، إضافة الى جرّ البطريرك الماروني بشارة الراعي الى المناداة باحترام التمثيل المسيحي.
3- الاعتراض على استثناء حركة أمل من المداورة في الحقائب للمطالبة بالاحتفاظ بالطاقة ونجاح التيار في خلق أجواء في البلد ضد هذا «الاستثناء» لطائفة دون أخرى. على أن السؤال المطروح اليوم يكمن في مدى صحة «الإيجابية» بين الحريري وعون، أم أنها أجواء مصطنعة لإمرار الوقت الى حين ظهور بوادر دولية ما. فالفيتو السعودي على الحريري لا يزال على حاله، رغم انفتاح إماراتي محدود، فيما لا موقف أميركياً جدّياً باستثناء اكتشاف واشنطن عدم فعالية المجتمع المدني في تغيير موازين القوى السياسية. على هذه القاعدة، يخوض الحريري مغامرة أخرى «رابحة-رابحة»: إذا فشل، فيرمي فشله على رئيس الجمهورية، وإن نجح في إقرار سلة الاصلاحات المشروطة لرفع القيود عن المساعدات المالية، يترجم الربح بشكل شخصي ويعيد لململة قاعدته استعداداً للانتخابات النيابية المقبلة. الأهم أن عودته الى الحياة السياسية والى السراي مجدداً مضمونة في الحالتين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا