من النكات التي سرت بعد إعادة تكليف سعد الحريري بتأليف الحكومة، واحدة تقول: منيح اللي الثورة ما كانت أقوى... كان رجع فؤاد السنيورة!حسناً، ها قد عاد سعد. لا يملك الرجل أي عناصر تتيح له قلب المشهد نحو الأحسن. حتى السحرة من حوله فاتهم قطار العجائب. وليس أمام الناس سوى الاستراحة قليلاً، على وقع أوهام الإصلاح وتراجع سعر الدولار واستعداد الحكام للتغيير، ثم سيعودون الى مواجهة العجز الذي يكبّلهم في كل مرة، باسم المصالح الكبرى، أي تلك المصالح التي تخص عصبياتهم. لكن المشهد لن يقتصر هذه المرة على التجمعات ذات الحساسيات الطائفية أو المذهبية أو حتى العقائدية. لقد انضم الى النادي تنظيم جديد، هو أقرب الى العصابة منه الى الإطار، اسمه «جماعة المجتمع المدني»، وهؤلاء، نجحوا خلال سنة فقط، في امتلاك كل عناصر السرقة والدجل والكذب والتبعية، وصار عندهم تحالفات مع مراكز قوى في النظام، من قوى سياسية ومرجعيات دينية ومنصات إعلامية ورجال أعمال، لكنهم أضافوا الى النادي تجمع المؤسسات القطاعية، من جامعات كبرى ونقابات مهنية كبرى... كل هؤلاء، الذين عرضوا علينا خدماتهم وعضلاتهم خلال عام، وما زالوا يعرضون أن يتولوا هم السلطة، أصابهم العجز أيضاً، لكنهم ليسوا محبطين الى الدرجة التي تعيدهم الى صفوف «حزب الكنبة». والسبب ليس قدرتهم على اختراع وسائل احتجاج جديدة، بل كونهم تورطوا في «نظام عيش» يفرض عليهم العمل من أجل استمرار الحصول على الدعم المادي في زمن الدولارات الطازجة!
سينتظر الجميع من دون جدوى أن يبادر أحد الى مراجعة واقعية لما حصل. أهل السلطة أصلاً يحترفون لعبة تقاذف المسؤوليات، وهم على استعداد دائم لبيع البلاد الى من يدفع أكثر. أما القوى السياسية ما دون السلطة، فهي لا تملك خطاباً قادراً على إعادتها الى تصدر المشهد السياسي. سيمارس هؤلاء كل أنواع الألاعيب، ولننتظر متخرّجي الجبهة اللبنانية من الكتائب والقوات والكنيسة كيف سيخترعون شعارات لإدارة أمورهم في المرحلة المقبلة، مع ترجيح أنهم سيرفعون من سقف التهويل من الآخر والسعي الى تعزيز فكرة التعايش كمجموعات داخل دولة شبه موحدة. أما الآخرون، من القوى الإسلامية التي انتصرت في الحرب الاهلية وتولت إدارة البلاد خلال ثلاثين سنة، فإن قادتها وكوادرها ينشغلون اليوم بحماية ما كسبوه حقاً أو غصباً خلال هذه العقود، وجلّ همهم أن لا يعاقبهم الساحر الكبير، ولو أن خوفهم متفاوت بين «قلة الحيلة» مثل وليد جنبلاط، و«ضيق الحال» مثل سعد الحريري، و«انسداد الافق» مثل نبيه بري. أما طبقة رجال الاعمال منهم، فتظهر استعداداً لتعديل أسعار الرشى إنْ تطَلّب السوق ذلك. أما حزب الله، فسينتظر المزيد من الخسائر على صعيد البنى السياسية والاجتماعية المتحالفة معه، لأن أولوياته تفرض عليه جدول أعمال تنتج عنه خسارة قسم من اللبنانيين، ما دام هو مصرّ على حماية علاقته مع قسم آخر منهم.
غير ذلك، سيكون من العبث السؤال عن أحوال اليسار بكل خلطاته وأذواقه وأنواعه، ولا حتى عن «المتعلمين الأوادم» الذين قبلوا قيادة فضلو خوري وسليم دكاش (لم تتحمل الجامعة اليسوعية محاضرة واحدة لشربل نحاس)، ثم ساروا خلف أشرف ريفي وربيع الزين، وسرَّهم الاحتفاء بهم من قبل بيار الضاهر وميشال المر وتحسين خياط. وهؤلاء، يرجّح، وعسى أن أكون مخطئاً، سوف يقبلون في المرحلة المقبلة دور الندابات فوق القبور. وجلّ ما يقولونه: سلاح المقاومة منع التغيير!
ماذا ينتظرنا مع سعد الحريري؟
أمام الرجل مهلة زمنية محددة لتنفيذ برنامج عمل هو شريك في وضعه، أساسه ورقته الإصلاحية الشهيرة، لكن تحديثه سيكون على شكل تنفيذ طلبات صندوق النقد الدولي. وأساس فلسفته: كيف نحصل على دولارات جديدة؟ لكن ليس عنده سؤال عمّا إذا كان يجب علينا الإنتاج لكي نحصل على هذه الدولارات، بل عنده إلحاح على أن نجد من يمدّنا بمزيد من الدين، وساعتها، لن يكون الحريري مربكاً وهو يتحدث إلى الناس: الدين له كلفة، له فائدة وله أساس، ولكي نحصل على الدين علينا أن نوفّر للدائن ضمانات بأن نتصرف بطريقة تعيد هذا المال، ولأن اسمنا أدرج على لائحة المدين المتعثر، صار لزاماً علينا الأخذ بشروط الدائن، وبالتالي، انتظروا أيها اللبنانيون أيام تنفيذ طلبات الدائن. وسيتوقف عن الكلام هنا!
مشروع الحريري هو ورقة صندوق النقد لا غير، والأمل بانفجار التسوية من داخلها... ومبروك للنظام انضمام «المجتمع المدني» الى صفوفه


أما ما الذي يريده الدائن، فهو أمر جرى تبسيطه الى أبعد الحدود من قبل أصحاب رؤوس الأموال: إلغاء أي دور رعاية من قبل الدولة لمواطنيها. وهذا يعني: إلغاء كل أنواع الدعم، سواء الدعم الخاص بالليرة الوطنية (يعني ترك سعر الدولار على غاربه) أم دعم السلع والخدمات (يعني ترك أسعار المحروقات والأدوية والطبابة والتعليم والمواد الغذائية خاضعة لشروط السوق)، كما سيفرض تقليص النفقات (يعني طرد عشرات الألوف من الموظفين من القطاع العام، ووقف كل برامج الاستثمار في البنى التحتية أو تطوير القطاعات ذات البعد الاجتماعي)، كما يعني الضمان المسبق للحصول على عائدات المؤسسات المنتجة (هذا يعني إما الإشراف الكامل على مؤسسات الكهرباء والمياه والهاتف والكازينو والميدل إيست والريجي و... أو امتلاكها من خلال برنامج خصخصة يجري، عنوة، إشراك أصحاب الودائع في المصارف فيه).
لكن الأهم من كل ذلك، أن الدائن، وهو عبارة عن ممثلي دول غنية، يريد ضمانات سياسية وأمنية بألا تسوء الأمور في لبنان، وهنا، سينتقل الى المستوى الآخر من الطلبات، مثل تلك التي تقول إن على لبنان السير في علاقات مهادنة مع كل من يشكل الخلاف معه عنصر قلق، وهذا يقود - من دون طول شرح - الى طلب تجميد أي خلاف أو صراع أو تباين مع العدو، وأن تعطى السلطة اللبنانية (يقصد بها الجيش والمؤسسات الأمنية الرسمية) دور الضامن الميداني، ولو تطلب الأمر منها فرض سيطرتها على الأرض بالقوة.
هذا الدفتر المفتوح من الشروط، هو جدول أعمال حصري لأي حكومة يؤلفها سعد الحريري، وإذا كان الناس لم يتعلموا من تجاربهم بعد، فسيشاهدون فصلاً جديداً من الفيلم الاميركي الطويل، وسيظلون يبكون كل وقت الفيلم، حتى ولو أصابتهم نوبات ضحك، فهي ستكون المرافقة عادة للكوميديا السوداء التي يعرفها اللبنانيون جيداً.
من قبل بهذه التسوية، عليه أن يستعد لدفع الأثمان الكبيرة، والفاتورة هذه المرة لن تخص فئة دون غيرها، لكن المنطق يعلمنا أن تضارب المصالح بين من بأيديهم الأمر، كفيل أحياناً بتفجير التسوية. وهذا ما نأمله، لأنه، وببساطة شديدة، لا مجال لانتظار الخير مع هؤلاء جميعاً، ومن يفكر في الانتفاض عليهم من جديد، عليه أن ينظر من على يمينه ويساره، ويعرف أن مهمة تنظيف الشارع من زعران المجتمع المدني أساسية في أي حراك يمكن أن يقود الى معادلات جديدة تحكم لبنان!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا