«قرار غبي أن يُجفّف مصرف لبنان السيولة بالليرة من السوق»، يقول الخبير الاقتصادي روي بدارو في وصف القرار الذي أصدره مصرف لبنان الأسبوع الفائت، ورسم فيه سقوفاً للمصارف على سحب الليرات من حساباتها الجارية لديه. وهذا القرار استندت إله المصارف لتفرض على زبائنها سقوفاً على سحب الليرة من حساباتهم. الغباء «بالمعنى الاجتماعي؛ فإذا صحّ مثلاً أنّ واحداً من أهدافه منع المُضاربة على سعر الليرة عبر شراء الدولار، فسيؤدّي القرار إلى خفض القيمة الشرائية لكلّ دولار موجود حالياً، وسلّة المواطنين الشرائية سترتفع على الأقلّ 20%، وهذا إجرام»، يقول بدارو، إضافةً إلى أنّ مصرف لبنان والمصارف يدعوان - في معرض تخفيفهما من وطأة الإجراء - المواطنين إلى الانتقال صوب خيارات الدفع البديلة: الشيكات والبطاقات المصرفية، فيما يُطلب من مُستوردي البضائع الدفع نقداً بالليرة للمصارف لفتح اعتمادات الاستيراد، ما يعني أنّ هؤلاء سيطلبون من زبائنهم (صيدلية، سوبرماركت، محطة وقود...) تسديد فواتيرهم نقداً، الذين بدورهم سيفرضون على المُستهلكين الأفراد أن يشتروا حاجياتهم بالليرة «كاش»، ولن يقبلوا الدفع بواسطة البطاقات. وُضع الجميع في مُنافسة على كُتلة نقدية محدودة، بغياب الثقة بالقطاع المصرفي التي ستمنع الناس من العودة إلى التعاون معه. يُشبه الأمر لُعبة الدوران حول الكرسي، وأول من يجلس عليها بعد توقّف الموسيقى، يفوز بها. يُخبر بدارو أنّه حتّى «شركات توزيع المحروقات لم تعد تقبل أن تقبض من أصحاب المحطات إلا أوراق الـ50 ألف أو الـ100 ألف، ما يخلق ضغطاً إضافياً... المجموعة الحاكمة من مصرف لبنان ومجلس وزراء ووزراء مالية مُتعاقبون، أوصلونا إلى مكان بات فيه الخيار بين الأسوأ والأكثر سوءاً، وفقدنا الخيارات المنطقية التي كنا نملكها قبل سنة. فكان يجب رفع الدعم لأنّه مبدأ غير إنساني وغير عادل، وأن يترافق مع تصحيح الحدّ الأدنى للأجور وسياسة ضريبية وتوزيع بطاقات دعم هادف». تأمين قارب الإنقاذ للناس، هو أيضاً ما يذكره الوزير السابق، والمصرفي، عادل أفيوني لـ«الأخبار». يتفهّم أنّ المطلوب من مصرف لبنان «الحفاظ على النقد والاحتياطي وتوفير الدعم للسلع الرئيسية، فيُريد في هذه الظروف تخفيف الطلب على الدولار، عبر الحدّ من التداول بالنقد». المشكلة أنّ القرارات تُتّخذ «من دون التنسيق مع السلطة السياسية، التي تختلف أولوياتها. فقرارات المركزي تحرم الناس السيولة، وبالتالي تزيد من الانكماش، في حين أنّ الدولة تُريد تحفيز الاقتصاد». يقول أفيوني إنّه «لو كانت الحكومة فاعلة، ووزارة المال تملك خطّة، لكانت اتُخذت تدابير تُخفّف الكلفة على المواطنين، كتقديم دعم مُباشر ومُحدّد من الدولة، وحوافز ضريبية...»، ولكن حين يغيب التنسيق، «يكون المفعول سلبياً على المجتمع والاقتصاد».
قبل سنة، في صيف 2019 تحديداً، اتّخذ مصرف لبنان إجراءات أدت إلى لجم السيولة وتقليص حجم النقد المتداول في السوق، فأدّت إلى النتيجة نفسها من امتصاص العملة وانخفاض نسبة الإقراض لدى المصارف، وبالتالي المزيد من الانكماش. لاحقاً، بدأ القطاع المصرفي «تصفية» ودائع الدولار الصغيرة، ويغطيها بليرات من مصرف لبنان، ما أدى إلى زيادة حجم النقد المتداول، ليصل في الأشهر الثمانية الأخيرة إلى أكثر من 22 ألف مليار ليرة. بعد اجتماعه مع وفدٍ من جمعية المصارف يوم الخميس الماضي، صدر بيان عن «المركزي» يصف فيه قرار خفض السحوبات بالليرة بأنه «إجراء مؤقّت تفرضه أوضاع استثنائية»، ولكنّ المُقلق في الأمر أنّ القيّمين على السياسة النقدية يدورون، و«يُدوّرون» البلد معهم، في الدوامة نفسها من الإجراءات التي تُكرّر النتائج ذاتها، لأنّهم ببساطة لا يُريدون استئصال الورم، بل «ضبط انتشاره»، بما يضمن تحقيقهم أرباحاً شخصية. يقول بدارو إنّه منذ «الـ2018 نتحدّث عن انكماش الاقتصاد، اليوم بتنا نواجه مرحلة انتحارية، وكلّما تأخّرنا أصبحت الكلفة على المجتمع أغلى».
يُدافع مُقرّبون من حاكم «المركزي» رياض سلامة عن قراره بالقول إنّه «لم يعد بالإمكان ضبط الكتلة النقدية في السوق، فمن غير المعقول طباعة ألف و300 مليار ليرة شهرياً، ويوجد 22 ألف مليار ليرة ضائعين» (تعبير «ضائعين» يعني أن هذه الأموال موجودة خارج القطاع المصرفي، علماً بأن حجم الاموال المودعة في المنازل والخزنات مبالغ فيه)، مُعتبرين أنّ «من الخطأ تصوير سلامة مُتحالفاً مع المصارف ويُحاول تأمين مصالحها، في حين أنّه في صراع عميق معها في هذه الفترة». بالنسبة إليهم، تختلف «مُحفّزات» مصرف لبنان لتجفيف السيولة بالليرة من السوق حالياً، مُقارنةً مع المرّات السابقة، «ومن بينها لَجم المصارف. فهو لم يحجب الليرة، بل طلب من المصارف أن تأخذ حاجتها الشهرية فقط، سامحاً لها بالحصول على أكثر من حصّتها، على أن تُحسم القيمة من الفوائد على حساباتها المجمدة، فخلقت المصارف هذه البلبلة لأنّها لا تُريد أن تخسر». ستختلف درجة تأثّر المصارف بالقرار، بحسب كمية السيولة التي تملكها في حسابها لدى مصرف لبنان، كأن يُحدّد أحد البنوك حدّ السحب الأقصى شهرياً بـ30 مليون ليرة، ومصرف آخر بـ4 ملايين ليرة! وبحسب المصادر، فقد قامت مصارف «بفرض عمولة وصلت يوم الجمعة إلى الـ10% على كلّ ليرة تُسحب، بعد أن كانت لا تتعدّى 0.5%». في اجتماع الخميس، انتقد سلامة تجارة بيع الشيكات بالدولار بـ2800 ليرة أو 2900 ليرة، ثم إيداع المبلغ بالليرة في المصرف وسحبه حسب سعر المنصّة أي 3900 ليرة، وبالتالي تحقيق أرباح على كلّ دولار. النقطة الثانية التي أشار إليها سلامة، «هي دخول بعض المديرين الكبار في المصارف بلعبة المضاربة على الليرة لتسديد ديون مصارفهم»، بحسب المُقربين منه. ولكن يوم الجمعة، صدر بيانٌ عن جمعية المصارف فيه تأكيد أنّ مصرف لبنان «سيستمر بمدّ المصارف بالسيولة النقدية كالمعتاد، وسوف تستمر بتأمين السيولة النقدية بالليرة للسوق بشكل طبيعي وفق ما جرت العادة خلال الفترة الماضية»، قبل أن «تدعو الجمعية المواطنين إلى استعمال الوسائل الأخرى لديهم».
ستُحسم الزيادة التي تحصل عليها من المصارف عبر تخفيض فوائد شهادات الإيداع

نجحت المصارف في «ابتزازها» أن تتوصّل إلى اتفاق مع سلامة، يُجنّبها خسارة آخر مورد لها، من دون أن تتضح تفاصيله كاملة. وبحسب المعلومات «إذا أرادت المصارف الحصول على كمية إضافية من الليرات، فستُحسم من شهادات الإيداع بالليرة (أموال مودعة من المصارف في مصرف لبنان، لآجال قصيرة) عبر تخفيض فائدة الـ7% التي كانت تحصل عليها، عوض ما كان مطروحاً سابقاً من قبَل «المركزي» الذي كان يريد شطب الفائدة نهائياً». وتشرح المصادر أنّ «حجّة سلامة أنّ المصارف كانت تحصل على فوائد مُرتفعة من مصرف لبنان، مقابل تقديمها فوائد أدنى لزبائنها، ما خوّلها تحقيق مدخول بنسبة تراوح بين 2% و3%». حالياً، انخفضت الفوائد التي تمنحها المصارف للمودعين، «مقابل استمرار حصولها على الفوائد المرتفعة من المصرف المركزي. يُريد سلامة، عبر حسم الليرات التي تطلبها المصارف من شهادات الإيداع، الانتهاء من ذلك في سياق تخفيفه النفقات من ميزانيته».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا