منذ قرر البطريرك الماروني بشارة الراعي الالتحاق بقوى 14 آذار، باتت الديمان تحظى بدعم قوى سياسية وأفراد ورجال دين لم يكونوا ليطأوا عتبة بكركي قبيل عام. تلاقت المصالح في لحظة انهيار استثنائي على جميع الصعد، فسلك الطرفان الطريق الأقرب لإنهاء تقاعدهما: الراعي المُبعد عن دائرة القرار السياسي منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وبقايا 14 آذار المٌبعدون بدورهم من حلفائهم والجهات الخارجية التي دأبت على دعمهم. لم تكن مهمة الراعي شاقة، بل مجرد طرح لنظرية حياد غير صالحة للتطبيق لا في سويسرا الغرب ولا الشرق، اضافة الى عظتين ناريتين رفع فيهما السقف ضد حزب الله ورئيس الجمهورية، فكان أن حجّ خصومهما اليه. لا حاجة إلى التذكير هنا بتصريحات البطريرك، التي وإنْ تناقضت واختلفت في بعض الأحيان، إلا أنها غالباً ما تلاقت مع مواقف قوى «8 آذار»، واستدعت انتقادات حادة من الفريق المقابل، وصولاً الى إطلاق لقب «بطريرك 8 آذار» على الراعي. ذلك لم يجعل من سيد الصرح زعيماً لهذه القوى ولا زكّاه للعب دور البطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير. وربما، بناءً على فشل هذه المحاولة، نزح الراعي منذ عامين نحو الوسطية، وسطية ميشال سليمان وأمين الجميل ورفاقهما... الى أن حلّت انتفاضة 17 تشرين. سريعاً، التحق البطريرك بـ»الثورة» وبدأت عظاته تنادي بالاستجابة لمطالب الشعب، مع حرصه الدائم على حماية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والقطاع المصرفي، السبب الرئيسي للانهيار المالي. خط بكركي الأحمر لم يزعج مجموعات الانتفاضة التي وجدت مساحة تلاق استراتيجية مع البطريرك، أقوى من أن يخلخلها «موظف صغير» يدعى رياض سلامة: «الحياد». اجتذب الشعار مجموعات مدنية كملتقى التأثير المدني، وأحزاب سياسية تلبس نفسها اليوم ثوباً تغييرياً كحزبي القوات والكتائب اللذين أعلنا المشاركة في الانتفاضة منذ ساعاتها الاولى. هكذا، سعى الراعي من حيث يدري أو لا يدري، الى قيادة انتفاضة 17 تشرين، التي كان أبرز ممثليها السياسيين قبيل طرح الحياد، يطالبون بفصل السياسة والاقتصاد عن الدين، والتزام بكركي نفسها الحياد.من هذا المنطلق، دعا البطريرك النواب السبعة المستقيلين من المجلس النيابي (بولا يعقوبيان، ميشال معوض، نعمة افرام، هنري حلو، سامي الجميل، نديم الجميل وإلياس حنكش) الى لقاء عقد أمس في الديمان. يريد الراعي أن يكبّر ساحة نفوذه «المدني». بقايا 14 آذار تسير وراءه في معركته الجديدة ضد حزب الله. القوات والكتائب تناصرانه. حتى التيار الوطني الحر لا يخرج رافضاً طروحاته.
هي استراتيجية البطريرك الأولى الناجحة حتى الآن في إعادة كل القوى المسيحية الى حضن بكركي، فيما مسألتا الحياد والانتخابات النيابية المبكرة تقودان النواب المستقيلين الى الراعي سريعاً. فهذان المطلبان هما من صلب طروحاتهما، ويمكن لبكركي أن تكون محفزاً باتجاه المزيد من الاستقالات النيابية في حال زيادة الضغط، والاستمرار في المطالبة بـ»فك الحصار عن الشرعية». وقد سبق للراعي أن طلب مساعدة الجهات الدولية والأمم المتحدة في هذا السياق. أما في اجتماع يوم أمس، فقد بادر الراعي الى سؤال المجتمعين عن خططهم المستقبلية بعد الاستقالة، وكيف ينوون المعارضة من الخارج حتى يواكبهم ويقف الى جانبهم. فالواضح أن بكركي اختارت المعارضة طريقاً لمشروعها الخاص. تقول يعقوبيان لـ»الأخبار» إن البطريرك سأل عن «خارطة الطريق التي يعدّونها. استمع إلينا وطلب إعداد ورقة تتضمن طروحاتنا المستقبلية بشأن إعادة بناء الدولة وحول الانتخابات النيابية المبكرة». من جهتها اقترحت النائبة المستقيلة عليه المساعدة في نزع الشرعية عن السلطة، نظراً الى أن بكركي هي «أهم مؤسسة دينية وأكثرها نفوذاً ويمكن لـ»جيشها» قلب المعادلة في البلد. قلت له إن المعارضة أصبحت دفاعاً عن النفس، فأومأ برأسه موافقاً». لكن من قال إن الناس أو الأكثرية الشعبية تريد انتخابات مبكرة أو استقالات؟ ألا تعدّ نتائج الانتخابات الماضية دليلاً على ما يريده هذا الشعب؟
استقالة نعمة افرام أتت برعاية من الراعي نفسه

«انتهت وكالة اللبنانيين لنوابهم في 17 تشرين، وعندما دُمّرت بيروت على أيدي السلطة الحاكمة. بمجرد أن هناك مسؤولين غير قادرين على الخروج من منازلهم أو السير في الشارع، يعني أن مزاج الناخب تغيّر والمعروف أنه عند أزمات كبيرة مماثلة لما حدث في العام الأخير، تلجأ الأنظمة الديمقراطية الى إجراء انتخابات مبكرة». ثمة هنا من يصنّف يعقوبيان ضمن هذه السلطة الحاكمة التي تتحدث عنها. غير أنها ترفض ذلك عنها، مشيرة الى أنها نفذت ما طلبه منها المنتفضون، أي الاستقالة. إذاً، هل يمكن لك شخصياً السير في الشارع؟ «أنا لم أخرج من الشارع وأتجول يومياً بين الناس. لا مشاكل لي مع أحد، باستثناء بعض التجمعات المنظمة سلفاً من السلطة للهجوم عليّ». تنفي يعقوبيان أن يكون أي مسؤول أميركي قد طلب منها الاستقالة، وتشير مصادر اللقاء إلى أن النائب المستقيل ميشال معوض، صديق الأميركيين، لم يكن متحمساً للاستقالة، لكنه سار وراء زملائه، فيما تؤكد هذه المصادر أن استقالة نعمة افرام جرت برعاية من بكركي. من جانبه، يشير النائب المستقيل هنري الحلو، المتدرّج في مدرسة وليد جنبلاط، إلى أنه خضع لصوت الشعب ويفترض العودة سريعاً الى صناديق الاقتراع. دعوة الراعي جاءت في إطار «الاستماع إلى الأسباب التي دفعتنا الى الاستقالة ووجهة نظرنا للمستقبل. وقد طلب منا طرح أفكار إصلاحية تسهم في قيام الدولة، على أن نستكمل اجتماعاتنا لاحقاً». أما بداية اللقاء فكانت بالحديث عن الحياد الإيجابي «مع الأخذ بالاعتبار أن هناك عدواً اسمه إسرائيل والقضية الفلسطينية المحقة، والتي تعني كل لبناني. حيادنا هو ضد التدخلات الإيرانية وغيرها»، يقول عضو كتلة اللقاء الديمقراطي التي يرأسها تيمور جنبلاط. ألم تكن حتى البارحة عضواً في حزب سياسي متورّط في الفساد ويفترض أن تكون الانتفاضة ضده؟ «استقلت انسجاماً مع اقتناعاتي، فضميري لم يسمح لي بالمتابعة. اللقاء هو لقاء ديمقراطي بكل ما للكلمة من معنى. موضوع الاستقالة مطروح بين القوى السياسية، أنا اتخذت قراري، وهناك حديث ضمن الكتلة عن استقالات قريبة أيضاً».
هكذا غسل هؤلاء كلّ ذنوبهم السياسية - وما ارتكبته أحزابهم المتجذرة في السلطة بحق المؤسسات والسياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية - في بكركي، بمباركة من الراعي... وخدمة للمشروع الجديد الذي يتبنّاه البطريرك.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا