بصرف النظر عما ستؤول اليه مفاوضات تأليف الحكومة، وبعيداً عن الرأي الفرنسي بحزب الله، وموقف الاخير من المبادرة الفرنسية، فإن من الواقعية الكلام عن ارتدادات ما حصل في الاسابيع الاخيرة، وما تركه تعثر تأليف الحكومة من شرخ في علاقات المجموعات اللبنانية، وكذلك نظرة التكتلات اللبنانية الى حزب الله، بما في ذلك حليفه التيار الوطني الحر. الأكيد أن ثمة اعتبارات سياسية تفرض نفسها في حدوث تغييرات باتت حاضرة بقوة في المشهد الاجتماعي - السياسي، لكن لا يمكن القفز فوق الانهيار المالي والاقتصادي الذي يزيد من النقمة والتململ. يضاف الى ذلك انفجار المرفأ الذي يمثّل محطة مفصلية بين مرحلتين. وهذا يؤدي الى خلاصة لافتة - تتعدى اتهام الحزب، منذ سنوات، باستخدام "فائض القوة» - في رمي كل أخطاء وخطايا المراحل السابقة على حزب الله وحده من دون الآخرين، سواء كان مسؤولاً عنها أم غير مسؤول، مشاركاً فيها أم غير مشارك. وهذا يعني تحميله أعباء الانفجار الاجتماعي والمالي والمصرفي والسياسي بكل حيثياته، لمساهمته في إيصال العهد الذي تدهورت فيه الاوضاع الى هذا الحد، وتحميله أيضاً كل أخطاء العهد والتيار الوطني الحر، التي باتت ترتد عليه، كما تحميله عثرات حلفائه وارتكاباتهم السياسية والادارية. وما راكم سلبيات في رصيده، أنه كبّل نفسه بالتزامه الادوات السياسية نفسها وببقائه أسير الممارسات السياسية نفسها، وتلطّيه أحياناً كثيرة خلف مقاربات الرئيس نبيه بري، منذ أن أصبح شريكاً فاعلاً بعد دخوله بقوة الى النادي الحكومي بعد النيابي. ورغم تغيير شروط اللعبة السياسية ومكوناتها على مدى سنوات، لم يبتكر جديداً يوازي ما يقوله عن ديناميته وماكينته الداخلية.بعد الخلاف الجذري الذي تكرّس منذ عام 2005 بين مكوّنات 8 و14 آذار، تعرض موقع حزب الله لتأثير تحولات سياسية إقليمية ومحلية، أولاً مع حرب تموز ومن ثم اتفاق الدوحة، وبعد حرب سوريا. ورغم كل ما اكتنف تلك المرحلة من خلافات سياسية ومذهبية، بقيت الاحلاف متشابكة الى حد كان من الصعب تخطي النظرة الى تأثير حزب الله في المعادلة السياسية المحلية. من المفيد قراءة هذا التحول اليوم على وقع متغيرات بدأت تحديداً منذ التظاهرات في تشرين الاول من العام الماضي، وموقف الحزب من المتظاهرين وقطع الطرق، وصولاً الى مرحلة ما بعد انفجار المرفأ وسقوط حكومة الرئيس حسان دياب وتعثر تأليف الرئيس المكلف مصطفى أديب حكومة جديدة. للمرة الاولى يظهر هذا الاختلاف الحاد في علاقة القوى الرئيسية مع الحزب في شكل غير مسبوق، مع الاخذ في الاعتبار أن ثمة تحولاً أساسياً، يكمن في موقع حلفائه من القوى المسيحية أيضاً في هذه العلاقة. والقوى هنا لا تعني الاحزاب السياسية فحسب، بل أيضاً الاطار الديني المؤسساتي. والاشارة الى هذا المفصل لا تكمن في قدرة تأثير المسيحيين كقوى سياسية وكمرجعية دينية، وقد تكون هناك آراء مختلفة حول دورهم وحيثيتهم، بل في أن هناك إضافة جديدة على المشهد السياسي تتعلق بعودة الكلام عن الفيدرالية بعد سنوات الحرب وبتغير نظرة القاعدة الشعبية للتيار الوطني الحر تجاه الحزب. وهذا يعني أن شريحة جديدة أضيفت الى منتقدي الحزب، تنضم الى القاعدتين السنية والدرزية المعارضة له. والقضية لا تتعلق بهجومات وتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن ما يجري أعمق من مهاترات، لأن نتائجها ستنعكس مستقبلاً في واقع اجتماعي، مهما كان مصير الحكومة. وهذه العوامل الاجتماعية أكثر تأثيراً من أي تفاهم سياسي من فوق، وهذا أمر اختبرته المكونات الطائفية بعد الحرب، إن في الجبل بعد المصالحة أو في التظاهرات عام 2005 أو حتى في تفاهمات مار مخايل ومعراب.
الكلام عن الحكومة يصبح تفصيلاً، والأخطر هو آثار التحولات في النظرة إلى الحزب


لم يكن الحزب في واجهة الانتقادات المحلية، كما هي حاله اليوم. فالقيادة السنية السياسية التي أظهرت ضعفاً في إدارة أزماتها الداخلية ومن ثم الحكومية، لم تتمكن من كسر حالة انتقاد قاعدتها لأداء الحزب. ورغم محاولة الرئيس سعد الحريري تخطّي هذا الحاجز وسعيه دوماً الى عدم إقفال باب الحوار مع الحزب، فإن أداءه المتعثر، ومحاولته التحايل أكثر من مرة للعودة الى السراي الحكومي، ووصوله في كل مرة الى حائط مسدود، لم تسهم سوى في تعزيز حالات الاحتقان الشعبية إزاء الحزب. ولا تختلف حال الشريحة الدرزية الموالية للحزب التقدمي الاشتراكي عن هذه المقاربة، فتتشابه حالهما بتشابه علاقة رئيس الحزب وليد جنبلاط بعلاقة الحريري بحزب الله، من دون أن تنعكس تطبيعاً لنظرة القاعدة الشعبية.
في المقابل، يترك التحول لدى المسيحيين علامة فارقة أيضاً. صحيح أن القوات اللبنانية على خلاف عقائدي مع حزب الله، لكنها حرصت في مرحلة التعايش الحكومي على توجيه رسائل إيجابية الى الحزب وأدائه في وزاراته. هذا الأمر تغيّر بطبيعة الحال، منذ تظاهرات 17 تشرين. وهذا ليس غريباً. الغريب أن تتبدل قواعد شعبية في التيار الوطني تجاه الحزب، ولا سيما في محاولة تصويب الانتقادات العلنية نحو الرئيس نبيه بري من دون خوض سجالات علنية مع حزب الله. سياسياً، قيادة التيار، مستظلة العهد، لن تنفذ أيّ انقلاب على الحزب لأسباب استراتيجية، والأهم رئاسية. لكن هناك تململ في قواعد التيار من الحزب، خصوصاً في أوساط أكاديمية ودينية كانت معروفة بانحيازها المطلق للحزب. هذا الأمر مهما سعت قيادة التيار الى نفيه، موجود وبقوة في أوساطه، وتعزز بالكلام عن الفيدرالية (ولا يمكن التخفيف من هذه اللازمة التي أصبحت يومية) التي لم تعد محصورة بالشق المالي والاداري فحسب، بل بات المنحى الاجتماعي أيضاً حاضراً. ومع تبدل اتجاه بكركي 180 درجة في علاقتها وموقفها من حزب الله، تكتمل الصورة السياسية التي بدأت تفرض إيقاعاً مختلفاً، ولغة مختلفة تذكر بأيام الفرز الطائفي والمذهبي. إذ ليس تفصيلاً لبعض هذه القوى موقف الحزب من باريس مثلاً، لأن التعامل معها لا ينحصر بمراعاتها الشروط الاميركية، بل بتضامنها الانساني مع انفجار المرفأ. وهذا كلام يُقال في دوائر أكاديمية وثقافية وسياسية.
هناك تمييز بين آراء مناهضي حزب الله من الذين ينتمون الى البيئة نفسها، وبين معارضي الحزب وحده من دون تحميل القوى الاخرى مغبة الأخطاء التي ارتكبت خلال سنوات ما بعد الحرب. لكن هذا لا يلغي أن الحزب أمام تحدّ داخلي يبرز للمرة الاولى بهذه الحدة، وسيكون أكثر حدة مع تفاقم الانهيار الاقتصادي وتعثر تأليف الحكومة وانفراط علاقات لبنان بعواصم تعنى به عادة. والكلام عن الحكومة يصبح تفصيلاً، لأن الأخطر هو الآثار المترتبة على هذه التحولات التي تحتاج الى قراءات كثيرة هادئة لدرس انعكاساتها المستقبلية، سواء تغيّرت هوية النظام الحالي أم لم تتغيّر.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا