لم يحسب البقاعيون يوماً أن يساوموا على مؤونتهم. فحتى في عزّ فقرهم بقيت هذه تقليداً وحاجة لا غنى عنها. لكن، في ظل الواقع الاقتصادي الذي ينحدر يوماً بعد آخر نحو الانهيار، يبدو أن اليوم لم يعُد كالأمس، وباتت للبقاعيين حسابات أخرى في لقمة عيشهم. انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار وغياب الرقابة الرسمية وجشع التجار، انعكس بشكلٍ واضح على أولويات هؤلاء المعيشية. ففي المؤونة، مثلاً، اتخذ معظم البقاعيين خيارات، ليس أقلها قساوة التخلي عن الأنواع «الأفخم» والأكثر كلفة وتقليص كميات أنواعٍ أخرى، فيما فضل آخرون «التقسيط» بالمواد، معتمدين على جدولة أولوياتهم، وإن كان رهانهم الأول والأخير على تغيّر الأسعار.لكل هذه الأسباب، «ما نحاول تأمينه اليوم من مونة الشتاء ليس إلا الحد الأدنى بسبب الوضع المالي والمعيشي الصعب». هذا ما تقوله زينب شريف ابنة بلدة اليمونة. قبل تلك «الغدرات»، لم تكن السيّدة الستينية تبخل بمؤونتها، أما اليوم فثمة أمر واقع يفرض عليها خيارات مرّة، تماماً كما على غالبية العائلات التي أبقت على الأنواع الأساسية فقط. هكذا، مثلاً، خرجت «القاورما» من لائحة الأساسيات هذا العام، فرغم أنها أشهر أنواع المؤونة البيتية في البقاع، إلا أنها «لم تعد مأكول الفقراء، بعدما بات كيلو لحم العجل بـ50 ألف ليرة والغنم بـ100 ألف... مين بعد بدو يموّن قاورما بمليون ليرة؟».
لم يقتصر «التشحيل» من اللائحة على القاورما، إنما طال أنواعاً أخرى، منها المربيات كمعقود التين والمشمش والكرز والتوت نظراً إلى غلاء أسعارها وسعر السكّر أيضاً «اللي وصل للأربعة آلاف ليرة، مع إنو عم نسمع إنو فيه سلة غذائية مدعومة». الزيت الأصلي أيضاً ولبنة القنبريس (لبنة الجرّة) والشنكليش والحبوب المفرّزة كالبازلاء واللوبيا والباميا، كلها أنواع شُطبت هذا العام، بسبب غلاء أسعارها.
مع ذلك، ثمة أنواع أخرى لا غنى عنها، وإن «طار» سعر موادها الأولية، ومنها مثلاً الكشك ومكدوس الباذنجان والبندورة المطبوخة وربّ البندورة. صحيح أن كلفة إعداد هذه الأنواع ارتفعت بحدود الضعفين، وربما ثلاثة أضعاف عمّا كانت عليه العام الماضي، إلا أنّ من المستحيل إلغاءها. لهذا السبب، عمد البقاعيون إلى تقليص كمياتها لـ«الفوز» بها.
الكشك، سيّد المائدة البقاعية، تضاعف سعره 400% عن العام الماضي


الكشك، سيّد المائدة البقاعية وأشهر أنواع المؤونة البعلبكية، تضاعف سعره 400% عما كان عليه العام الماضي. يمكن الخروج بتلك الخلاصة بحسبة بسيطة للمادتين الأساسيتين اللتين تشكلان أساس الكشك، وهما البرغل واللبن. فمادة البرغل، مثلاً ارتفع سعرها من 2000 ليرة العام الماضي إلى 8000 ليرة هذا العام، فيما ارتفع سعر اللبن من 8000 ليرة إلى 20 ألفاً. وفيما كان «مدّ» الكشك (20 كيلو)، مثلاً، يكلّف 110 آلاف ليرة، باتت كلفته اليوم 600 ألف، وهو ما دفع العائلات إلى تقليص الكمية. أما «المكدوس» فله حكاية أخرى، خصوصاً أن مواده كثيرة، من الباذنجان إلى الفليفلة إلى حشوة الجوز والزيت. اليوم، مع غلاء الأسعار، بات سعر كيلو الباذنجان 2000 ليرة بعدما كان العام الماضي 800 ليرة، وكيلو الفليفلة بـ2500 ليرة وكيلو الجوز بين 45 ألف ليرة و90 ألفاً ، بعدما كان يساوي 25 ألف ليرة. لهذا السبب، عمد البقاعيون إلى تقليص الكمية واستبدال حشوة الجوز بالفستق الذي يتراوح سعره بين 15 و30 ألف ليرة. أما المشكلة الأكبر فهي سعر الزيت الذي حلّقت أسعاره أضعافاً مضاعفة. وبحسب فاطمة حمية «لجأت العائلات إلى إنجاز جزء بسيط من مؤونة المكدوس بالطريقة المعتادة، فيما القسم الأكبر يُحفظ في الثلاجات على أن يجري حشوه وحفظه بالزيت في وقت لاحق من السنة».
ما فعلته الأزمة المعيشية والمالية داخل البيوت فرضته أيضاً على التعاونيات الزراعية وبيوت المؤونة التي لم تختلف عن حال العائلات، خصوصاً لناحية تخلّيها أو تجزئتها للمنتجات. وبحسب الدكتورة راغدة المصري، رئيسة تعاونية «زادت الخيرات» في منطقة بدنايل، فإن التعاونيات الزراعية «ليست بعيدة عن السوق الزراعية والتسويقية وغلاء الأسعار، وبسبب ارتفاع أكلاف المواد الأولية الزراعية وغلاء أجر اليد العاملة نعمل اليوم على الطلبيات أكثر». إضافة إلى تقليص الكميات، عمدت التعاونيات أيضاً إلى «إلغاء بعض الأنواع خصوصاً المكلف منها».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا