وسط الانطباعات بأن لا شيء في الأفق يوحي بإمكانية تحقيق اختراقات فعلية تُتيح الإفراج عن حكومة الرئيس مصطفى أديب، كسر رئيس تيار «المُستقبل» سعد الحريري حالة المراوحة، مقدماً اقتراحاً بشأن وزارة المالية. تراجعَ الحريري خطوة، بعدَ أن خاضَ حرب «المداورة» وعدم حصر أي وزارة في يد أي طائفة. وكعادته، استبقَ إعلانه هذا بتبريرات من النوع الذي يُظهره الأكثر تنازلاً «لصالح اللبنانيين» كما قال، و«للمحافظة على المبادرة الفرنسية». ما أعلنه الحريري في بيانه، ليسَ لمصلحة البلد، ولا تنازلاً كلياً لصالح مطالب الثنائي حزب الله وحركة أمل، أو هدية قدّمها بشكل طوعي الى خصومه. «مُتجرعاً السمّ» كما قال، رضَخ الحريري للضغط الفرنسي، ولواقع أن الحكومة لن تتألف من دون شراكة حقيقية، وأن الثنائي، معه حلفاؤه، لن يسمح بتأليف حكومة أمر واقع. لكن رئيس تيار المستقبل استبقى بعضاً من ماء الوجه، إذ حصرَ تراجعه بمساعدة الرئيس المكلف على «إيجاد مخرج بتسمية وزير مالية مستقل من الطائفة الشيعية، يختاره هو، شأنه شأن سائر الوزراء، على قاعدة الكفاءة والنزاهة وعدم الانتماء الحزبي، من دون أن يعني هذا القرار في أي حال من الأحوال اعترافاً بحصرية وزارة المالية، بالطائفة الشيعية أو بأي طائفة من الطوائف». وشدّد الحريري في بيان صادر عنه على وجوب أن «يكون واضحاً أنّ هذا القرار هو لمرة واحدة ولا يشكّل عرفاً يبنى عليه لتشكيل حكومات في المستقبل، بل هو مشروط بتسهيل تشكيل حكومة الرئيس أديب بالمعايير المتفق عليها، وتسهيل عملها الإصلاحي، من أجل كبح انهيار لبنان ثم إنقاذه وإنقاذ اللبنانيين».
(هيثم الموسوي)

ما أعلنه الحريري أمس نقطة تسجّل عليه، لا له. وهو إن كانَ قد أعطى إشارة إيجابية في الشكل، لكن البيان في مضمونه، يدين الحريري ويؤّكد أولاً أنه كانَ يتصرّف وكأنه الحاكِم المطلق، يضَع شروطاً للتأليف أمام أديب ويحدّد له مواصفات الحكومة ووزراءها وكيفية توزيع الحقائب، كما يؤكّد أن المعالجة السياسية لهذا الملف لم تتأخر بسبب إصرار الثنائي على تسمية وزير المالية، بل بسبب الحريري نفسه الذي تصرّف منذ تكليف أديب كما لو أنه الوصيّ عليه والمفاوض الحقيقي في ملف التأليف وأن الرئيس المكلف هو مجرّد منفّذ لقرارات رئيس تيار «المستقبل». وأكد بيان الحريري أنه المسؤول عن عدم تواصل أديب مع الكتل التي سمّته، وأخذت عليه عدم تشاوره معها، وإصراره على توزيع الحقائب، وفتح معركة مع الثنائي الشيعي لا معنى لها، ومحاولة فرض حكومة أمر واقِع.
وإذا كانَ أي انفراج في مسار الوضع اللبناني باتَ رهناً بمصير المبادرة الفرنسية، فإن ما أعلنه الحريري لا يعني أن البلاد تتجه غداً إلى تأليف الحكومة، وخاصة أن وزارة «المالية» ليسَت وحدها العقدة، لكنّ التصويب عليها جعل العقد الأخرى مخبأة. فبالنسبة الى وزارة «المالية»، أيّد الحريري أن تكون من حصّة الثنائي، على أن يتولاها «وزير شيعي مستقلّ»، وهو ما استغربته مصادر الثنائي التي تؤّكد أن «الطرح ليسَ بجديد، وهو سبقَ أن تقدّم به الفرنسيون ورفضناه، وكانَ موقفنا واضح لجهة التمسّك بتسمية الوزير، أو طرح عدة أسماء يختار منها الرئيس المكلف، وما زلنا عند موقفنا ولا تراجع عنه». ثم «من يظن الحريري نفسه ليخرج ويقول إنه يسمَح بذلك لمرة مرة فقط»؟ تسأل المصادر، و«هل وجدَ في تفاصيل المبادرة الفرنسية التي يقول إنه سيساعد أديب لأجل إنجاحها، هل وجَد فيها بنوداً تتعلق بالمداورة وحقه هو في تسمية الوزراء أو في إدارة ملف التشكيل وحده من دون التشاور مع باقي الأطراف؟ هل أعطته المبادرة الفرنسية حقاً حصرياً في توزيع الحقائب كما يريد وفرض شروطه»؟ وتؤكّد المصادر أن «الثنائي لا يزال عند موقفه في اختيار الوزير الذي يريد بالتشاور مع رئيس الحكومة، ونحن على استعداد لتقديم لائحة طويلة بالأسماء، وليختَر أديب واحداً منها». وعلمت «الأخبار» أن رئيس الجهورية العماد ميشال عون سيستقبل اليوم شخصية قيادية من حزب الله، للتباحث في شأن تأليف الحكومة، علماً بأن التواصل لم ينقطع بين الحزب والنائب جبران باسيل في الأيام الماضية.
وفي وقت رأت فيه أوساط سياسية أن «قرار الحريري قد يكون مقدمّة لتذليل العقدة، أي وضع الكرة في ملعب الرئيس المكلف وفتح الباب أمامه للاتفاق مع الثنائي على اسم وزير للمالية، تحت عنوان وزير مستقلّ»، اعتبرت الأوساط أن ذلك لا يعني الإفراج عن الحكومة، فهناك عقبات كثيرة تتعلق «بإدارة التشكيل مع الرئيس ميشال عون والحصة المسيحية، فهل سيقبلَ عون بأقل مما قبِل به الثنائي، أي اختيار الوزارات وتسمية الوزراء»، وهل «سيبقى الوزير جبران باسيل على تعفّفه بالبقاء خارج الحكومة، وسيقبل بأن يُعطي الحريري وزارات لجهة معينة ويمنع وزارات عن جهات أخرى، أم سيفتَح هذا الأمر شهيته من جديد للتفاوض على حصته الى جانب رئيس الجمهورية»؟ خاصة أن خطوة الحريري لم تحظَ بغطاء شركائه في «نقابة» رؤساء الحكومات السابقين الذين أعلنوا «عدم التزامهم بهذه المبادرة الشخصية».
المبادرة الفرنسية مستمرة وباريس مصرة على الحلّ

وفي هذا الإطار، علمت «الأخبار» أن الحريري، وقبل إصداره بيانه الذي سرعان ما تبرّأ منه الرؤساء نجيب ميقاتي وتمام سلام وفؤاد السنيورة، كان قد اجتمع بالثلاثي. ولم يتضح إذا كان ما جرى أمس هو تقسيم للأدوار بين الحريري وشركائه، أم هو خطوة تفرّد بها الحريري من دون موافقة الثلاثي ميقاتي سلام السنيورة. وبدا لافتاً في بيان الثلاثي أنه حيّد أديب عن أي استهداف، مكتفياً بالتصويب على مبادرة الحريري. وفي هذا الإطار، قالت مصادر قريبة من أديب إنه «يدرس خياراته كافة، ولديه مروحة واسعة منها، بدءاً بالمضي في التأليف، وصولاً إلى الاعتذار. وهو سيتشاور مع رؤساء الحكومات السابقين جميعاً، ومع الفرنسيين، كما مع رئيس الجمهورية، لاتخاذ القرار المناسب».
لكن ما الذي أرغم الحريري على هذا التراجع المفاجئ، بعدَ أن كانَ رأس حربة في هذه المعركة، مستقوياً بالخارج؟ يقول مطلعون على خطّ تأليف الحكومة والحركة الفرنسية إن «باريس كثفت اتصالاتها في الأيام الأخيرة مع الحريري، وهي مصرّة على نجاح مبادرتها، لأنها تحقق مصلحة استراتيجية وفرنسية داخلية؛ إذ سيكون من الصعب على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يخسر معركة العودة إلى بسط نفوذٍ لبلاده في لبنان، لأن تلك الخسارة تعني تقدّماً لخصمه في شرق المتوسط، الرئيس التركي رجب طيب اردوغان.

الحريري يعترف بأنه المعطّل للحل وبأن أديب ينفّذ قراراته

ومن جهة أخرى، فإن الفشل في حل الأزمة اللبنانية سيمثّل مادة دسمة يستخدمها ضدّه خصومه في الداخل الفرنسي». ولذلك «واصلَ الفرنسيون الحديث مع مختلف الأطراف المعنيين بعملية التأليف عبر الاتصالات أو عبر موفدين الى لبنان، مؤكدين أن المبادرة مستمرة، وأن أديب لن يعتذر إذا لم نطلب منه، ولن نطلب منه ذلك». كما أن باريس «كانت تؤكّد أنه على الرغم من إطلاق النار الأميركي على مبادرتها والعقوبات، فإنها مستمرة في محاولاتها إيجاد حلول مع الولايات المتحدة»، من دون التأكيد «إذا ما كان تراجع الحريري مرتبطاً بموقف أميركي جديد»، خاصة أنه «رفض وساطة النائب وليد جنبلاط بعد عودة الأخير من باريس ولقائه مدير المخابرات الفرنسية الدبلوماسي السابق برنار أيمييه، تقوم على قبول إسناد حقيبة المالية للثنائي هذه المرة، كي لا تكون ذريعة لتعطيل المبادرة الفرنسية». كذلك وصلت إلى الحريري رسائل «شديدة الوضوح» من حزب الله ومن الرئيس نبيه بري، تؤكد له «استحالة التراجع عن مطلب الشراكة في تأليف الحكومة من باب اختيار الوزراء الشيعة، كما استحالة التراجع عن مطلب الحصول على حقيبة المال».
في السياق، أعاد تكتل «لبنان القوي»، عقب اجتماعه الأسبوعي، تأكيد وقوفه إلى جانب رئيس الجمهورية ودعمه لإزالة العراقيل أمام ولادة الحكومة. وحذّر التكتل من «تصلُّب المواقف الذي من شأنه أن يُفشل المبادرة الفرنسية ويُدخل البلاد في أزمة مفتوحة، في وقت هي في أشدّ الحاجة إلى حكومة إصلاحية، وإلا فستذهب البلاد فعلاً إلى المجهول». وأشار التكتل إلى أنّ «تسهيل التكتل هدفه منع الانهيار، وليس الخوف من ضغوط قائمة أو عقوبات مفترضة، هو ما يحاول بعض المأزومين الترويج له في مسألة الحكومة بحثاً عن كبش محرقة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا