منذ وقوع الانفجار في مرفأ بيروت يوم 4 آب 2020، صدر الكثير من النظريات بشأن مسببات التفجير. وحتى اليوم، لا يزال بعض النظريات، التآمرية بمعظمها، أكثر رواجاً من أي واقع يثبته التحقيق. يزداد الأمر سوءاً لأسباب شتى، لكن أوّلها سوء إدارة عملية التحقيق، وضعف ثقة اللبنانيين بالأجهزة الأمنية والقضائية.حتى اليوم، يبدو مسار التحقيقات قاصراً عن النفاذ إلى المستوى السياسي من المسؤولية عن الكارثة التي وقعت. تُحصر المسؤوليات بالمستوى الإداري، وبصورة انتقائية. قاضي التحقيق العدلي يتصرف كما لو أنه ينفّذ قراراً سامياً، يقضي بتحييد جهات عن دائرة الشبهة. فهو لم يجرؤ بعد على الاقتراب من الجيش، مثلاً، رغم مسؤولية المؤسسة العسكرية عن التعامل مع المتفجرات والمواد الخطرة، ورغم الصلاحيات «الفرعونية» التي تتمتع بها المؤسسة. وتلك الصلاحيات تتجاوز أي نص قانوني، وأي قرار إداري، وأي ولاية قضائية. وبدلاً من ذلك، يتولى الجيش بنفسه التحقيق، فيما يَخضع المحقق العدلي لمزاج «الرأي العام»، فيوقف أفراداً ما كان ينبغي توقيفهم، ولا يوافق على إخلاء سبيل أي منهم، علماً بأنهم لم يكونوا يملكون أي صلاحية أو قدرة، لا قانونية ولا فوق - قانونية، لتفادي الكارثة، وقاموا بواجبهم بالإبلاغ عمّا في العنبر الرقم 12 غير مرّة.
الحديث عن «قرار سامٍ» ينفذّه المحقق العدلي ليس ضرباً من ضروب التحليل. فهذا القرار صدر فعلاً، عندما قررت السلطة السياسية التعامل مع التفجير كتعاملها مع أي حدث «عاديّ» آخر. لم ترَ السلطة التنفيذية، ولا تلك التشريعية، أن تفجير المرفأ كارثة وطنية تكشف، مرة جديدة، أن نظام الجمهورية هو ما انفجر. ليس الحديث هنا عن النظام السياسي، بالمعنى الدستوري، الفاشل والمترنح والصدئ، والذي لا يكفّ عن إثبات فشله، بل عمّا يمكن وصفه بـ«منظومة القيادة والسيطرة» إدارياً. كان على السلطتين التنفيذية والتشريعية التعامل مع 4 آب 2020 كما تعامل كيان العدو مع 14 آب 2006. الفشل في إدارة الحرب، وفي تنفيذ القرار السياسي، حتّم إنشاء لجنة تحقيق حدّدت مكامن الخلل، وخرجت بتوصيات جرى تنفيذها لتفادي تكرار «الكارثة». من الأسهل القول إن هذا الأمر مستحيل في لبنان من دون تغيير النظام السياسي. لكن قد يمر قرن وحروب كثيرة قبل تحقيق ذلك التغيير. الحديث هنا هو عن تعديل سلسلة اتخاذ القرار وآليات تنفيذها، بما يضمن وضوح المسؤوليات الإدارية والقضائية، للحؤول دون تكرار الفجيعة. عدم تأليف «فينوغراد» لبنانية بعد تفجير المرفأ، كان تعبيراً عن قرار السلطتين رسم حدود للتحقيق الجنائي، التزم بها المحقق العدلي.
في الجانب التقني، الأداء التحقيقي لا يبشّر بالخير أيضاً. سوء إدارة مسرح الجريمة واضح للعيان، ولا داعي لتكرار الحديث عنه. وخضوع القضاء لـ«إشارة» الأمن هو الكارثة التي لا تقل آثارها فداحة عن نتائج الانفجار نفسه. استسهل المحققون الوصول إلى نتيجة. ثمة ارتياح عارم لفكرة أن الحريق الذي أدى إلى الانفجار سببه أعمال التلحيم في باب العنبر الرقم 12. أعمال التلحيم انتهت قبل الرابعة والربع من بعد ظهر 4 آب، بحسب إفادات شهود وموقوفين (بعض الإفادات تحدّث عن انتهاء التلحيم بعيد الثالثة). أما التدقيق التقني، فيرجِّح أن تكون أعمال التلحيم قد انتهت بين الساعة 4:37 و4:40. ودخان الحريق لم يظهر قبل الخامسة والنصف (التفجير وقع عند السادسة وسبع دقائق). يبدو المحققون كمن اختار ما يريحه: شرارات التلحيم دخلت من تحت باب العنبر (كان مرتفعاً عن الأرض نحو 10 سنتم)، لتصطدم بمادة قابلة للاحتراق، وتتسبّب بنيران ظلّت «تعسّ» على شكل جمر لأكثر من 50 دقيقة، قبل أن يخرج الدخان من العنبر. لماذا هذه الطمأنينة المريبة إلى غياب مسار تحقيقي يشتبه في إمكان أن يكون الحريق مفتعلاً؟ السؤال عن هذه الفرضية يُواجه بقلة الاكتراث، علماً بأنها (فرضية الحريق المفتعل) لا تعفي أحداً، إدارياً كان أو أمنياً أو قاضياً أو سياسياً، من مسؤولية جمع مكوّنات قنبلة ذات «قوّة نووية» في مكان واحد، وتركها معاً لنحو ست سنوات. هذه الفرضية تحتاج إلى نفي، نفي ناتج عن تحقيق، لا بناءً على رغبة محققين، أمنيين وقضائيين، بأن يختاروا أسهل الإجابات، ثم تقديمها كحقيقة. أن يبقى سبب الحريق مجهولاً، أهون من اللجوء إلى ما يريح. في التحقيقات، لا شيء تفسّره الصدفة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا