مر شهر وأربعة أيام على وقوع الانفجار الأكبر في تاريخ لبنان، مدمراً جزءاً من مرفأ بيروت واحياء سكنية في العاصمة يوم 4 آب 2020. وحتى اليوم، لم يُحسم بعد كيف وقع التفجير، ولا الجهات والأفراد الذين يتحمّلون مسؤولية ما جرى. الثابت، تقنياً، هو ما ورد في تقرير فوج الهندسة - سَرية خبراء الذخائر والمتفجرات، في الجيش، لجهة «أنّ حادثاً ما أدى إلى اشتعال مواد داخل العنبر. وهذا الاشتعال أحرق المفرقعات النارية فتصاعد منها الدخان الأبيض ومن ثم حصل حريق فانفجار لبراميل الميثانول، تصاعدت بعدها ألسنة النيران التي ولّدت انفجارا نجمت عنه غازات، أدّت بدورها إلى انفجار أطنان من نيترات الأمونيوم التي أنتجت موجات من العصف الهائل أدت إلى دمار شامل في المرفأ وأطراف مدينة بيروت». كيف اشتعل الحريق؟ لا احد من المحققين قادر على الحسم. صحيح أن حدّادين كانوا يعملون في العنبر رقم 12، وأنهم غادرو المرفأ عند الساعة الخامسة، أي قبل ساعة و7 دقائق من حصول التفجير، لكنهم انهوا عملهم في باب العنبر قرابة الرابعة والربع من ذلك اليوم. وهم كانوا «يلحّمون» في الباب الخارجي. ما الذي أشعل الحريق إذاً؟ لا احد يملك الجواب النهائي. الفرضية التي يرتاح لها المحققون، هي أنه نشب نتيجة شرارة أحدثها تلحيم الباب.إفادات الموقوفين تتناقض في كثير من المسائل. والمسؤولون عن إدارة المرفأ يتقاذفون المسؤولية. في الوثائق التي اطلعت عليها «الأخبار»، يظهر ان أسابيع من التحقيق لم تحسم الكثير من الفرضيات، وأن التحقيقات لا تزال محصورة في المستوى الإداري، ولم تتجاوزه إلى مستوى السلطة السياسية. فمهما كانت أسباب التفجير، سواء كانت «حادثاً عَرَضياً»، او «عملاً تخريبياً»، تبقى المسؤولية الاولى على من سمح بجمع «مكوّنات قنبلة» تعادل قنبلة نووية تكتيكية، وبتخزينها في مكان واحد، من دون أي إجراءات لمنع اندلاع حريق.
في ما يأتي خلاصة آلاف الصفحات من التحقيقات والوثائق التي اطلعت عليها «الأخبار»، من دون تجريم احد من الشهود او الموقوفين الذي بلغ عددهم نحو 30.
رغم الصدمة وحال الضياع التي تسبّب بها انفجار المرفأ في الرابع من آب، إلا أنّ القضاء تمكن من استعادة توازنه، نسبياً، ليرسم مساراً محدداً للتحقيق. لم تُستبعد أي فرضية في ظل تولّي أكثر من جهاز أمني التحقيقات قبل حصرها بالجيش. فرضية عمل إرهابي أو اعتداء إسرائيلي أو تخريب للتعمية على فساد أو حتى محض الصدفة، جميعها سيناريوات خضعت للتحقيق، على الرغم من أنّ وجهة التحقيق اليوم تستبعد أي هجوم بطائرة أو بصاروخ على اعتبار أنّ مديرية الطيران المدني ردّت على طلب المباحث الجنائية المركزية بشأن رصد طيران معادٍ أو صديق في أجواء العاصمة أو فوق بيروت بالقول إنّ أنظمة الرادار العاملة في لبنان (محطتا بيصور وبيروت) لم تلحظ أي طيران معادٍ أو صديق بين الساعة 5:00 و6:10، إنما ذكرت أنّ التسجيلات تُظهر تحليقاً مكثّفاً للطيران المعادي في جنوب لبنان قبل عدة ساعات من الانفجار. لكن المديرية العامة للطيران المدني لفتت الى أنّ الرادارات التي لديها لا يمكنها رصد طائرات صغيرة مسيّرة عن بُعد (Drones). على أن جهات التحقيق، وبما تكوّن لديها من معطيات، ترجح بأنّ الحريق تسبب بالانفجار. لكن التحقيق القائم لم يحسم بعد أسباب الحريق الحقيقية: هل هي أعمال الحدادة، أم أنّ شخصاً ما أو جهة ما افتعلت الحريق؟
المحققون قسموا التحقيق في انفجار مرفأ بيروت إلى ثلاث مراحل زمنية. المرحلة الأولى، مرحلة إحضار السفينة ورسوّها في مرفأ بيروت أي في الأشهر الأخيرة من عام ٢٠١٣. والمرحلة الثانية تتعلّق باحتجاز السفينة في ٢٥ تشرين الثاني عام ٢٠١٣، وصولاً إلى غرقها في ١٨ شباط من عام ٢٠١٨. أما المرحلة الثالثة فتبدأ منذ اكتشاف أمن الدولة أمر نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت أي في كانون الأول من عام ٢٠١٩، وصولاً إلى الرابع من آب عام ٢٠٢٠ تاريخ الانفجار.
ملف التحقيق يشمل تحقيقات الجيش وفرع المعلومات والمباحث الجنائية المركزية واستجوابات المحامين العامين التمييزيين التي باتت ركيزة التحقيق الذي يُجريه المحقق العدلي القاضي فادي صوان. الإجراء القضائي الأول الذي اتُّخذ كان منع سفر عدد من المسؤولين ورفع السرية المصرفية عن حساباتهم، بناءً على طلب النيابة العامة التمييزية من هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان. هذا الإجراء تمّ بناءً على ما أورده رئيس فرع التحقيق في مديرية المخابرات العميد محمد الفوّال ووزيرة العدل ماري كلود نجم حول وجود معلومات عن قيام بعض المسؤولين بمحاولة تهريب أموالهم إلى خارج لبنان. هذه الخطوة الأولى قبل أن تتوالى التوقيفات بعد بدء التحقيقات. المسوّدة التي رسمها القضاء وضعت الجميع على لائحة المستدعين إلى التحقيق، سواء كانوا في دائرة الشبهة أو على سبيل الشهادة. حدّد القضاء الأمنيين المكلّفين أمن المرفأ. فحُدِّد الضباط التالية أسماؤهم: قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، مدير المخابرات السابق العميد إدمون فاضل، رئيس فرع مخابرات بيروت العميد جورج خميس، رئيس مكتب أمن المرفأ في مديرية المخابرات الحالي العميد أنطوان سلوم والسابق العميد مروان عيد.
أما السياسيون الذين تقرر الاستماع إليهم فهم جميع وزراء المال والأشغال والعدل الذين تعاقبوا منذ وصول نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت عام ٢٠١٣. وهم وزراء الأشغال: غازي العريضي، غازي زعيتر، يوسف فنيانوس وميشال نجار. وزيرا المال: علي حسن خليل وغازي وزني. وزراء العدل: سليم جريصاتي، ألبير سرحان، أشرف ريفي، شكيب قرطباوي وماري كلود نجم. كما وُضِعت أسماء أربعة قضاة كمسؤولين يجب سؤالهم وهم: مروان كركبي، هيلانة اسكندر، جاد معلوف وفرنسوا الياس.
كذلك وُضِعت على خريطة طريق التحقيق التي رسمها القضاة أسماء القادة الأمنيين والعسكريين على سبيل الشهادة وهم: اللواء طوني صليبا، العميد أنطوان منصور، اللواء عباس إبراهيم والعميد أسعد الطفيلي. غير أنّ اسم قائد الجيش الحالي العماد جوزف عون لم يُذكر، برغم أن معنيّين بالتحقيق يرون وجوب الاستماع إليه بما أنّ اسم سلفه أدرِج على اللائحة.
أسئلة كثيرة يُفترض أن يُجيب عنها التحقيق. بداية، يجب الكشف عن سبب دخول الباخرة «روسوس» التي كانت محمّلة بنيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت ثم تفريغ حمولتها. وإعادة التدقيق في عملية التحميل لمعرفة ماذا حصل فعلاً، وهل العطل التقني الذي طرأ على السفينة كان مفتعلاً أم أنه نتيجة «سوء حظ». وثمة مسألة تتعلّق بالمكان المسموح قانوناً استخدامه لتخزين المواد القابلة للاشتعال والقابلة للانفجار أو المستخدمة في تصنيع المتفجرات، لتحديد المسؤول عمّن جمع مكوّنات قنبلة ضخمة في مكان واحد، ولا سيما أنّ رئيس اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار المرفأ حسن قريطم أقدم مع علمه بالخطورة الشديدة للمواد المضبوطة باتخاذ القرار بوضعها في العتبر الرقم ١٢ الذي يفتقر إلى معايير السلامة، علماً بأنه وضع في العنبر نفسه مضبوطات أخرى قابلة للاشتعال والانفجار. ويُشتبه في أن قريطم لم يقم بمهامه بمراقبة صيانة العنبر رغم تعرض بابه وحائط فيه للكسر منذ مدة طويلة. كما أن إدارة المرفأ، وبعد تدخّل المديرية العامة لأمن الدولة، بناءً على إشارة النيابة العامة التمييزية، قامت بإجراءات لتنفيذ الإشارة، من دون إجراءات الحيطة والحذر رغم وجود مواد قابلة للاشتعال. كما أنّ مديرَي الجمارك السابق والحالي: شفيق مرعي وبدري ضاهر، وبالرغم من علمهما بالخطورة الشديدة للمواد المضبوطة، لم يمارسا مهمتهما المنصوص عليها بالقانون لجهة تلف أو إعادة تصدير البضائع، إنما اكتفيا بمراسلة قضاء العجلة. كما لم يراقبا حسن وسلامة تخزين هذه البضائع، علماً بأنّ الجمارك وإدارة المرفأ تتشاركان هذه المسؤولية بحسب القانون.
لم يدقّق القضاء في فرضية أن شحنة النيترات تُرِكت عمداً في بيروت بهدف الحصول على أموال التأمين


التحقيق معني أيضاً بتحديد المسؤول عن ترك نيترات الأمونيوم طوال هذه المدة. وهل طلب العقيد الراحل جوزيف سكاف من مصلحة التدقيق والبحث عن التهريب عام ٢٠١٤ إبعاد السفينة إلى ما بعد كاسر الموج، علماً بأنه طُلب التوسع بالتحقيق لكشف ملابسات وفاة سكاف الذي ترددت أخبار عن اغتياله، إلا أنّ خلاصة التحقيقات التي أجراها فرع المعلومات بيّنت أنّ سبب الوفاة يندرج في إطار القضاء والقدر. ثم ماذا كان دور الوكيل البحري بسام مصطفى بغدادي؟ لماذا لم يتكفّل بإصلاح السفينة؟ كذلك تتواصل التحقيقات الموازية بآليات وشاحنات ومعدات المسح الزلزالي التي تُفيد الرواية الموجودة لدى القضاء بأنّ «روسوس» استُقدمت لغاية نقلها إلى مرفأ العقبة في الأردن. ويجب تحديد إذا كان قدوم هذه السفينة محض صدفة أم أنّ من اختارها فعل ذلك عن سابق تصوّرٍ وتصميم. وبالتالي، هل العطل الذي طرأ على السفينة مفتعل أيضاً لبقائها هنا؟
إضافة الى ذلك، ثمة بحث عن دور الشركة التي كانت بصدد استيراد شحنة نيترات الأمونيوم، والبنك الوطني في موزمبيق. كما تظهر ثغرات بحاجة الى توضيح. إذ تحدثت الخبيرة ميراي مكرزل في تقريرها الذي أعدّته إثر الكشف على نيترات الأمونيوم بتاريخ الرابع من شباط عام ٢٠١٥ عن أنّ الأكياس وُضعت بطريقة غير منظّمة بحيث لا يمكن عدّها، مشيرة إلى أنّه بحسب قسيمة الإدخال فإنّ عدد الأكياس الممزّقة هي ١٩٥٠ كيساً من أصل ٢٧٥٠ كيساً. والسؤال المطروح هنا: هل تمكنت مكرزل من تحديد العدد رغم تعذّر الإحصاء، أم أنها اعتمدت على مستندات تسلّمتها من إدارة المرفأ أو مديرية الجمارك؟ وهل تم إحصاء الكمية في وقت لاحق؟ كذلك تحديد من كان يدفع بدل إيجار التخزين في العنبر الرقم ١٢؟

وجهة التحقيق تستبعد أي هجوم بطائرة أو بصاروخ على اعتبار أن أنظمة الرادار لم تلحظ أيّ طيران معادٍ أو صديق


وثمة رواية يجري التداول بها، ينبغي التدقيق بها، علماً بأنه، حسب الوثائق التي اطلعت عليها «الأخبار» والمعلومات التي حصلت عليها، لم يتم التطرق إلى هذه الرواية في التحقيقات. تقول الرواية إن الشركة التي اشترت «نيترات الأمونيوم» اتّفقت مع شركة النقل ومع لبنانيين في مرفأ بيروت لتمرير صفقة. وتذكر الرواية المتداولة أنّه جرى التأمين على البضاعة التي تنقلها السفينة «روسوس» بعدة ملايين من الدولارات، علماً بأنّ ثمنها الفعلي وكلفة نقلها لا يتجاوزان الـ 800 ألف دولار أميركي (بعض التقديرات تشير إلى أن الثمن لا يتجاوز الـ 400 ألف دولار). وكانت الخطة تقضي بترك البضاعة حتى تتلف، من أجل الحصول على بدل التأمين. وهذا ما يُفسّر سبب عدم مراجعة الشاري عن مصير بضاعته قبل عام ٢٠١٥، أي بعد عام ونصف عام تقريباً من تفريغها في مرفأ بيروت، يومها كلّفت شركة «سڤارو» (مالكة النيترات) محامياً لبنانياً للتقدم بطلب للكشف على البضاعة المحتجزة. وبناءً على طلبه، كُلّفت ميراي مكرزل تقديم تقرير عن حالة البضاعة، واقترحت إجراء تحليل مخبري لها، مشيرة إلى أنّ المستدعي لم يوافق. وهنا تقول الرواية إنّ التقرير الذي يتحدث عن الحالة المزرية للبضاعة كان كافياً ليُستخدم للحصول على التأمين لتُترك النيترات في المرفأ لخمس سنوات أخرى من دون أن يسأل عنها أحد.
الإجابة عن هذه الأسئلة تفترض، بالإضافة إلى التحقيق مع جميع المسؤولين في لبنان، الاستماع إلى مالك السفينة الموجود في قبرص والقبطان والطاقم والشركة التي اشترت البضاعة والتي باعتها والثالثة التي تولّت نقلها. كذلك الاستماع إلى الوكيل البحري والمخلّص محمد حنتس الذي عرض السفينة «روسوس» على شركة «سبيكتروم» لتنقل معدات المسح الزلزالي من بيروت إلى العقبة، ما دفع بـ«روسوس» إلى المجيء إلى بيروت. كما ينبغي الاستماع إلى إفادة ممثلين عن «سڤارو»، وهنا يرد اسم المحامي جورج القارح الذي كُلِّف من قبل الشركة تخليص البضائع المحتجزة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا