أصدر مصرف لبنان التعميم الأساسي الرقم 154 بتاريخ 27/8/2020 الذي يهدف إلى إعادة تفعيل المصارف العاملة في لبنان. في ما يلي ملاحظات على بنود رئيسيّة تضمّنها التّعميم تركّز على جوانب وانعكاسات ماليّة وائتمانيّة لهذه البنود.أولاً، يلحظ القرار أن على المصارف أن تحثّ عملاءها (المودعين) الذين قام أي منهم بتحويل ما يفوق مجموعه خمسمئة ألف دولار أو ما يوازيه بالعملات الأجنبيّة خلال الفترة المبتدئة من 1/7/2017 على أن يودعوا (أي يعيدوا من الخارج) مبلغاً يوازي 15% من القيمة المحوّلة أصلاً في حساب مجمّد لخمس سنوات.
المعايير الائتمانية تشير إلى أنّ فرص نجاح هذه الخطوة معدومة من نقطة الانطلاق. فلا ثقة لدى المودعين الحاليّين والسابقين بالمصارف والأجهزة الرقابيّة التي بدّدت الودائع ولم يستطيعوا حتّى اللحظة وضع خطّة واقعيّة لإعادة الودائع إلى أصحابها. حتّى أبسط القرارات التي تأخذها على عجل الدول التي عانت أزمات مصرفيّة نقديّة (اليونان كمثل) كالكابيتال كونترول، عجزت الدولة اللبنانيّة وأجهزتها على أخذها حتّى الآن وبعد مضيّ حوالى سنة من بدء الأزمة، ما تسبّب بتحويل مليارات الدولارات الى الخارج من ذوي الحظوة وأصحاب النفوذ.
إذا كان الهدف من هذا القرار إعادة جزء من الفوائد الضخمة (تفوق 20% سنوياً) التي حصل عليها بعض المودعين من هندسات مصرف لبنان الماليّة، فهنالك خطوات أوضح وأعدل لتحقيق ذلك. في البداية، الهندسات الماليّة كانت مفتوحة لكبار المودعين فقط. فعلى سبيل المثال، أحد أكبر المصارف في لبنان، والذي استفاد بشكل كبير من هذه الهندسات، اشترط على المودع أن يساهم بمبلغ لا يقلّ عن 20 مليون دولار، ما يعني أنّ تصنيف الخمسمئة ألف دولار يتضمّن عدداً كبيراً من المودعين الذين لم يستفيدوا من الهندسات الماليّة.
المصارف ومصرف لبنان يعرفون بالتحديد من هم الذين استفادوا من الهندسات الماليّة. الأجدى على مصرف لبنان بمؤازرة الدولة أخذ قرارات موجّهة مباشرةً لمعالجة الفائض الضخم الذي حصل عليه المودعون الكبار لإعادتها. فإذا كان مردود الفائدة، على سبيل المثال، 20%، بينما المردود العادل سوقياً هو 5%، يكون الهدف استرداد الفارق.
هذا من الناحية المصرفيّة. أمّا إذا كان الهدف تحفيز اللبنانيّين الذين لهم ودائع خارج لبنان للمساهمة في تنشيط الاقتصاد ولإعادة بناء الوطن، فهنالك طرق أخرى فعّالة وشفّافة لتحقيق ذلك كإنشاء صندوق استثماري وطني يدار من جهات مستقلّة من خارج القطاع المصرفي والرّسمي ومعروفة بنزاهتها ومهنيّتها.
ثانياً، بالنّسبة إلى قرار تحفيز المستوردين أن يحوّلوا 15% من قيمة الاعتمادات التي قاموا بفتحها في السنوات الثلاث الماضية، ينطبق عليهم أيضاً ما ذكر في البند الأوّل أعلاه.
لكن ما قد يخشاه المستوردون، الذين هم بحاجة إلى خدمات مصرفيّة لفتح اعتمادات متكرّرة، أن يتمّ التضييق عليهم من قبل المصارف إذا لم يتماشوا مع قرار مصرف لبنان. وإذا تماشوا فستكون النتيجة رفع أسعار المستوردات لتعويض ما قد يعتبره المستوردون خسارة موازية للمبالغ المحوّلة من الخارج.
ثالثاً، في ما يتعلّق بفرض نسبة 30% على رؤساء وأعضاء مجالس إدارة وكبار مساهمي المصارف والإدارات التنفيذيّة العليا للمصارف والأشخاص المعرّضين سياسياً (PEPs) من التحويلات التي قاموا بها منذ 1/7/2017 فهو خطوة جيّدة. ولكن هل يكفي هذا؟
مسؤوليّة رؤساء وأعضاء مجالس إدارة وكبار مساهمي المصارف وإدارتها التنفيذيّة العليا قد تكون أكبر بكثير. فهؤلاء مسؤولون بشكل أساسي عن انهيار القطاع المصرفي وضياع الودائع لأنهم خالفوا مبادئ التسليف والاستثمار الأساسيّة. فهم الذين أسلفوا زبوناً واحداً (الدولة اللبنانيّة بشقّيها الحكومي ومصرف لبنان) غير جدير الائتمان (not credit worthy) 70% من مجمل أصول المصارف (أيلول 2019). ولماذا التوقّف عند 1/7/2017؟ فالمصارف أمعنت بممارستها غير المجدية في تسليف الدولة اللبنانيّة لسنوات عديدة قبل هذا التاريخ.
أمّا بالنسبة إلى الأشخاص المعرّضين سياسياً، فحدّث ولا حرج. فلا نسبة 30% ولا الفترة الزمنيّة المحدودة تكفي. الكل يعرف كمّ الفساد في الطبقة السياسيّة، ولكن المستغرب أن يكون القطاع المصرفي هو الأداة التي استعملتها هذه الطبقة على مرّ السنين لتهريب أموالها. فكيف تمّ ذلك بوجود مبادئ «اعرف زبونك» (know your customer) التي أصبحت أساس أي نظام مصرفي سليم.
رابعاً، يدعو القرار المصارف إلى إتاحة المودعين رضائياَ تحويل ودائعهم إلى أسهم أو سندات في رساميلها. هذه الخطوة جيّدة تحت ظروف طبيعيّة يعمل بها القطاع المصرفي، لكنّنا في أشدّ البعد عن ذلك.
القطاع المصرفي يرزح تحت فجوة ضخمة في أصوله بالدولار لا تقلّ عن 78 مليار دولار (هي قيمة ودائع وتسليفات المصارف بالدولار لدى مصرف لبنان والدولة اللبنانيّة) وهي أضعاف مجموع رساميل المصارف مجتمعة. في غياب خطّة واضحة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، أسهم المصارف لا قيمة لها، وبالتالي تحفيز المودعين لتحويل ودائعهم إلى أسهم في الوضع الحالي هو غير مجدٍ.
في حال تحسّن وضع القطاع المصرفي جرّاء إعادة هيكلة القطاع، تخمين قيمة أسهم المصارف يجب أن يتمّ من خلال مؤسّسات ماليّة متخصّصة ومستقلّة (التعميم ينصّ على أنّ على المصرف إعطاء المودع تقريراً تخمينياً لقيمة السهم موافقاً عليه من مصرف لبنان من دون أن يحدّد الجهة المعدّة للتقرير). فأكثريّة المودعين ليس لديهم الكفاءة الاستثماريّة للتأكّد من جدوى التخمين المعروض عليها ولا خطورته على محفظة كل منهم (not-qualified investors).
إعادة بناء الاقتصاد تحتاج إلى قطاع مصرفي سليم وفعّال. هذا يحتاج إلى خطّة كاملة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وبدونها لن يستقيم الوضع.

* مدير تنفيذي عمل سابقاً لدى مؤسّسة التمويل الدوليّة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا