مع تحديد الرئاسة الفرنسية موعد عودة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، في الأول من أيلول المقبل، يعود الى الواجهة مجدداً الكلام حول مستقبل الأزمة السياسية الحالية من منظارَي واشنطن وباريس، كون العاصمتين هما الأكثر حضوراً اليوم في التعامل معها.في واشنطن، لا يزال الوضع اللبناني خاضعاً لتجاذب تيارَين، واحد متشدد الى الحد الأقصى في التعامل مع إيران كأساس لحل العقَد المتبقية في الساحة الإقليمية، ما يترجم بإبقاء الأمور معلّقة من دون أي حلول في الأفق، في انتظار نضوج حل هذه الأزمة سلباً أو إيجاباً. والثاني يرى أن حل هذه العقد، ومنها لبنان، هو الأساس للتعامل مع إيران، وهذا يعني الذهاب نحو التشدد أكثر فأكثر في ملفات لبنان الداخلية وأسلوب التعامل مع بعض القوى السياسية المعارضة للسياسة الأميركية، والتريث في مقاربة مواقف بعض القوى التي تعتبر حليفة لها.
في الحالتين، الثابت أن الفريقين يجمعان أوراقهما لبنانياً وإقليميا، الى حين حسم واحد من الاتجاهين، ما يؤدي الى أن يبقى لبنان تحت وطأة اللاحسم في السياسة الأميركية، وهو ما يعبّر عنه علانيّة التضارب في الرسائل الأميركية من خلال بعض الشخصيات الدبلوماسية والسياسية، كما تعبر عنه دوائر أميركية في واشنطن معنيّة بالملف اللبناني. وهذا التجاذب، لا الإرباك، يؤدي في لحظة لبنانية حساسة الى مزيد من البلبلة، لأن القوى السياسية تحاول كل بحسب اتجاهها التماهي مع أحد هذين التيارين لبناء مواقفها ليس فقط حيال تشكيل الحكومة، واختيار رئيسها، والإفلات من العقوبات المحتملة، إنما أيضاً حيال مستقبل لبنان والمكونات السياسية والشعبية فيه. من دون الأخذ في الاعتبار أيضاً أن انشغال واشنطن في الانتخابات الرئاسية من جهة، وفي ترتيب العلاقات الإقليمية مع إسرائيل، يضع لبنان أيضاً في منزلة حساسة، كان يفترض أن يكون محصّناً أكثر تجاهها، وخصوصاً بعد انفجار المرفأ، لولا تفاقم الخلافات الداخلية وسوء إدارة الأزمة السياسية.
ما يجري في واشنطن يجري مثله في باريس. ثمة ملاحظة يبديها أحد المعنيين في متابعة الملف اللبناني فرنسياً، أن المسؤولين في بيروت لم يستوعبوا أن واشنطن وباريس، وعلى اختلاف مقاربتهما لكيفية حل الأزمة، متفقتان على أمر جوهري، أن ملف انفجار المرفأ والتعامل الإنساني والمساعدات الدولية منفصل تماماً عن مسار هذه الأزمة، ولا سيما أن واشنطن لا تزال تقف عند مرحلة ما قبل الانفجار، بمعنى تقديم الأزمة السياسية وأولويات الفساد والاهتراء الداخلي مع العناوين المتعلقة بحزب الله، على ما عداها. في باريس، الكلام أوضح بأن الاهتمام بالدرجة الأولى هو بالشعب اللبناني. وباريس ليست مسؤولة عن ترجمة خاطئة لبعض القوى في تفسير مستوى الاهتمام الفرنسي، وزيارة ماكرون مرتين لبيروت، بمنحى مختلف وأبعد من الحالة الإنسانية. هذا لا يعني أن باريس ليست حريصة على دورها في المشاركة في الحلول المقترحة، ولا سيما أن «هناك شعوراً بالذنب» حيال دورها في التسوية الرئاسية، لكن مستوى التجاوب اللبناني بهذا الاهتمام أحدث صدمة معاكسة فرنسياً. فلا يمكن تجاهل رسائل مباشرة من الفرنسيين للسلطة السياسية، كما من الأميركيين وهو ما عبّر عنه علانية وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ديفيد هيل، من «تقريع» لأداء هذه السلطة ومستوى الفساد الذي بلغته.
السعودية غير معنية بالحكومة ولا بتسمية أي مرشح لها، وهي متجاهلة تماماً للملف اللبناني


ثمة اتجاهات فرنسية ودوائر تحاول فرض إيقاعها الخاص على الدور الفرنسي لإنتاج حل، على مستويات مختلفة، سواء في الرئاسة الفرنسية أو الخارجية أو حلقات المستشارين والدبلوماسيين، وهذا ما يفسّر تناقض الرسائل التي وصلت الى بيروت، علماً بأن للقوى السياسية في لبنان، بدءاً من رئاسة الجمهورية، حضوراً وتواصلاً مع هذه الدوائر بحسب اختلاف رؤيتها السياسية. وفي هذا الإطار خضعت زيارة ماكرون المقبلة لتقويمين مختلفين، الأول تحدث عن مغزى السير بها، فيما لم يلحظ الفرنسيون أي تجاوب مع مبادرتهم في تسريع الإنتاجية إن في ما يتعلق بانفجار المرفأ أو في تسريع الخطوات لتشكيل حكومة جديدة، وخصوصاً أن الزيارة قد تكرس مرة أخرى تعويم السلطة التي استفادت من الصورة الأولى وستستفيد من الصورة الثانية. وما يعني باريس أن لا تظهر الرئاسة أيضاً بمظهر العاجز أمام الشعب اللبناني الذي خرج ماكرون لملاقاته، بعدما دخل شخصياً على خط الأزمة، وليس عبر الصف الثاني أو الثالث. أما الرأي الثاني فأشار الى أن تخلّي فرنسا حالياً عن لبنان سيؤدي الى مزيد من الأصداء السلبية، ويضاعف من الانحدار نحو المجهول، فلا يصل الى اللبنانيين بعد الأزمة الحكومية والانفجار سوى وعود دولية من دون ترجمة بحلول طويلة الأمد، وهذا يضع باريس أمام إحراج داخلي، وخصوصاً بعد حملة التجييش الفرنسية الى جانب الشعب اللبناني. من هنا، تكمن المحاولة الجدية التي جرت مع واشنطن ومع السعودية لخلق كوة في جدار الأزمة الحكومية. لكن بات واضحاً أن جواب الرياض سلبي بوضوح تام، وهو أن السعودية غير معنية بالحكومة ولا بتسمية أي مرشح لها، وهي متجاهلة تماماً للملف اللبناني الذي سبق أن حذرت باريس منه، منذ التسوية الرئاسية، وصولاً الى تشكيل حكومتَي الرئيس سعد الحريري في عهد الرئيس ميشال عون. هذا الجواب السلبي لم يمنع باريس ولا سيما الفريق الذي لا يزال حريصاً على دور فرنسا في تسوية شاملة الاستمرار في سياسة الدفع لإيجاد حلول للموضوع الحكومي، كما لتنفيذ خطوات جدية في الموضوع المالي والاقتصادي، الذي عبرت عن استيائها صراحة من سوء الخطوات المتخذة فيه. لكن خطواتها لا تزال من دون أفق، إذ بدأت تتلمّس أن مفاتيح الأزمة الحكومية لن تكون في يدها وحدها، رغم رغبتها في تقديم إنجاز جدي، في تأكيد حضورها في لبنان. فالعناصر المحلية الداخلية التي تحول دون هذا الإنجاز لبنانية، بقدر ما هي خارجية. وهذا يعزز انطباع الفريق المؤيد لتقديم مصالح الشعب اللبناني على مصالح الطبقة السياسية، بأن يكون الحسم الفرنسي أكثر وضوحاً في عدم تقديم جوائز ترضية الى السلطة اللبنانية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا