منذ ما قبل انفجار المرفأ، ثمة متغيرات لافتة بدأت تعطي مؤشرات مقلقة في المجتمع المسيحي. قد يكون هذا التعبير نافراً في اعتبار البعض وفي قراءة قوى سياسية، لكن الانقسام الطائفي والمذهبي يحتّم التعاطي بوضوح مع هذه المتغيرات بالاسم على قاعدة طائفية. لأنه للمرة الاولى منذ سنوات ما بعد الحرب، تكثر الإشارات السلبية عن تعابير وأفكار وملامح تعيد التذكير بأسوأ أيام الحرب، من دون تجاهل واقع خروج فئات شبابية من الحالة الطائفية، عبّرت عن نفسها في شكل جليّ في تظاهرات 17 تشرين الاول الفائت، لكنها بقيت محدودة، تتقدم وتتراجع، ولم تتطور الى الحد الذي يجعلها قادرة على مواجهة الأحداث المتتالية أو النزعات الصاعدة حديثاً.مع بدء الكلام عن الانتخابات النيابية المبكرة، انقسم الرأي بين مؤيد كالقوات اللبنانية والكتائب، ومعارض كالتيار الوطني الحر؛ الاول على اعتبار أن ما يجري من انقسام سياسي، واستقالة الحكومة وتعاطي رئاسة الجمهورية في تعليق كل الملفات، ومن تداعيات انفجار المرفأ، يمكن أن يسهم في تعزيز حضورهما ومضاعفة قوتهما. أما التيار فمعارضته نابعة من شعور تخلخل قاعدته الانتخابية وتراجع حضوره بعد تراكم الأخطاء التي ارتكبها في السنوات الاخيرة، ما يجعله يرفض أي انتخابات مبكرة تفقده جزءاً من مقاعده النيابية. لكنّ ثمة حقيقة يعرفها بعض المتعاطين في الانتخابات وفي الحوارات الداخلية التي تشهدها أوساط مسيحية، أن هناك صعوداً لاتجاهات يمينية حادة، لا علاقة لها بالقوات ولا بالتيار أو الكتائب. وأي انتخابات ربما ستفرز إطاراً جديداً، ليس بالضرورة أن يكون أفضل من القوى الحالية بخياراته وشعاراته، لكنه حكماً هو أكثر تشدداً وجنوحاً نحو مظاهر حادة.
بعد عام 2005، نما هذا الشعور في أحيان متفرقة، لكنه ذاب في التظاهرات تارة والكلام عن التمسك بالطائف والدولة، وتارة بالكلام عن استعادة الحضور المسيحي فيها لدى أكثر من طرف، علماً بأن قيادات سياسية في الصف الاول، ولا سيما في قوى 14 آذار، كانت واعية لهذه المخاطر، وأعطت الاولوية للتمسك بالعيش المشترك والطائف والبقاء في الدولة. لكن السنوات الاخيرة حملت متغيرات نابعة من أسباب موضوعية، بعضها «داخلي» بسبب أداء القوى السياسية المسيحية نفسها التي أسهمت في تزخيم الخلافات الداخلية وعدم تقديم نماذج حكم أفضل من السابق، وبعضها خارج هذا الاطار، ويتعلق بموقف القوى السياسية الأخرى، أي تيار المستقبل والثنائية الشيعية، وكيفية تعاطيهما مع القوى المسيحية، مع تسجيل تراجع فاقع لدور الشخصيات المسيحية الجدية داخل القوى السياسية، كالتقدمي الاشتراكي والمستقبل.
لم يكن انفجار المرفأ سوى الصاعق الذي فجّر، إضافة الى جزء كبير من بيروت، المشاعر التي تعدّ على يمين القوى السياسية نتيجة احتقان شهور وسنوات. وتم التعامل مع الانفجار على أساس أن الضحايا مسيحيون في غالبيتهم، وأن الشركات والمؤسسات والمنازل التي دمرت بغالبيتها لمسيحيين، وأن قطاعات مسيحية صناعية وتجارية وسياحية أساسية دمّرت بالكامل. والقضية هنا ليست محصورة بتغطية إعلامية زاد الشحن العاطفي فيها من مشاعر رفض الآخر، بل هي نابعة من خسائر بشرية بالمئات، وأكلاف مادية باهظة لمجتمع يرزح تحت ثقل أمواله المسروقة من مصارف، يضاف اليها أداء سياسي للسلطة وأحزاب وقوى سياسية، تعاملت مع الانفجار بعد أيام قليلة منه، من باب الاستثمار السياسي، ومن ثم كأنه لم يكن. والشعارات التي رفعت بعد الحادثة هي من زاوية رفع المعنويات في استعادة شعارات مرحلة سابقة وعناوين قلاع الصمود والتصدي. هذا الكلام الذي يقال في منتديات وحلقات وفي البيوت لم يكن يوماً بهذه الحدة وهذه الصراحة، وتجاهله لا يفيد أحداً، بل العكس. فإن كشفه والكلام عنه، يمكن أن يدفع الى التعامل بجدية معه واستلحاق إصلاح الوضع وسحب فتيل التشدد. أما التنكر له فلا يؤدي إلا الى مضاعفته.
القوى المعنية تتجاهل هذه الحقائق وتتعامل معها كما تعاملت مع أكياس النيترات


وفي الحوارات الدائرة أن المسيحيين دفعوا ثمن تطبيق الطائف والتمسك بالدولة، ودفعوا ثمن مرحلة ما بعد 2005، وسيدفعون ثمن الديون التي تسببت فيها القوى السياسية التي لم تنفذ الطائف ونهبت الدولة ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، ويدفعون ثمن سياسات عشوائية في السنوات الاخيرة، سياسية ومالية، وسيدفعون ثمن الانفجار من أرواحهم وممتلكاتهم. ورغم أن البعض حاول التعامل إعلامياً وسياسياً مع جريمة كفتون على أنها حادثة أقل شأناً مما هي واقعاً، إلا أن البعض أصرّ على اعتبار أن هذه الحادثة أدت الى مقتل ثلاثة شبان مسيحيين، ولو أن الحزب السوري القومي الاجتماعي العلماني لا يحبّذ هذا المصطلح. لكن مجرد وقوعها في غياب الامن الرسمي، وفي بلدات شبه خالية من أهلها، يعطي دافعاً أكبر للأمن الذاتي الذي بدأت تشهده أكثر من منطقة. وهذا جزء من المشهد العام، تحت عنوان التخلي عن الدولة.
والتخلي عن الدولة ليس بمفهوم مقاطعة 1992 أو الإحباط الذي تلا تلك المرحلة، بل بمفهوم عام 1973 وسبق حرب 1975، حين بدأ الكلام على عدم القدرة على العيش مع الآخر، لكن من دون عدة العمل ذاتها ولا الارضية ذاتها. فالمسيحيون اليوم لا يملكون ما كانوا يملكونه في السبعينيات في المؤسسات أو في المصارف أو في هيكلية الدولة ككل، ولا أي إمكانات أخرى. وهذا ما قد يدفع أكثر الى خطاب متشدد قد لا يجد إمكانات تنفيذه وترجمته على الارض في صورة عملية وسريعة. لكنه حتماً سيكون حاضراً بقوة في أي مشهد انتخابي، كما هي حاضرة وقائع الهجرة التي نمت بقوة في الاشهر الاخيرة، ويتوقع لها أن تنمو أكثر بفعل الإجراءات الجديدة وتسهيل عمليات السفر والهجرة.
بين خطاب بكركي المستجد الذي جمع حوله غلاة اليمين الذين بدأوا يرون فيه تماهياً مع أفكارهم، وأداء القوى الأساسية على اختلاف توجهاتها، التي لم تستوعب حجم ما يجري منذ أشهر من تضييق اقتصادي ومالي ومن احتقان شعبي، تكمن خطورة الشحن الحالي مقابل تصاعد النزعات الحادة. والقوى المعنية لا تزال تستمر في تجاهل هذه الحقائق وتتعامل معها كما تعاملت مع أكياس النيترات وكأنها غير موجودة، الى أن تنفجر في وجه الجميع.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا