منذ انفجار الرابع من آب، باشرت فرنسا سلسلة من الاتصالات الدبلوماسية لتشجيع تأليف حكومة جديدة في لبنان تحظى بدعم أبرز القوى الفاعلة فيه، وهي مقاربة تمثل عودة لدورها التقليدي كقوة وسيطة.سعت فرنسا خلال حقبة طويلة إلى التمايز في مواقفها حيال الشرق الأوسط للظهور بمظهر الوسيط الذي لا بد منه لحل الأزمات لكن الربيع العربي شكل منعطفا حقيقيا في السياسة الخارجية الفرنسية. ففي سياق استراتيجي معقد وشديد الاضطراب، تخلت فرنسا خلال رئاسة نيكولا ساركوزي وخلفه فرنسوا هولاند عن مقاربتها المتوازنة لشؤون الإقليم وتورطت في نزاعاته من دون امتلاك مقومات لمثل هذا الدور. أدى ذلك الى جملة من الإخفاقات، خاصة في الملف السوري أضرّت بمصداقيتها. حاولت فرنسا، بعد وصول ايمانويل ماكرون الى السلطة، استعادة دورها كوسيط للحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران لكنها لم تتمكن من ذلك. في الواقع، لم تستطع باريس أن تبتعد عن المواقف الأميركية وظهرت أحيانا باعتبارها ناطقة باسم واشنطن أكثر من كونها وسيطا. في الظرف اللبناني الراهن، حيث ما زالت فرنسا تمتلك قدرة على التأثير، هي عبرت عن متانة دعمها لهذا البلد واختارت إحياء دورها التقليدي كجسر بين الطوائف من دون إقصاء أي منها من اللعبة السياسية، على الرغم مما سبق أن بدر عن وزير خارجيتها من تعاطٍ إقصائي خلال زيارته لبنان في تموز الماضي.
«لقد ورث وزير الخارجية الحالي هذا البعد المعادي لإيران في السنوات التي عمل خلالها في وزارة الدفاع. من الممكن وصف موقفه بالأحمق لأنه لم يراعِِ الخصوصية اللبنانية. الكارثة التي وقعت في لبنان أعادت الاعتبار إلى مقاربة فرنسية واقعية. إذا أردنا إعمار هذا البلد، ينبغي أن يتم ذلك في ظل إجماع وطني، ولا يمكن استبعاد حزب الله مهما كان موقفنا منه. إذا كانت هناك مآخذ عليه مرتبطة بالموقف الفرنسي من النظام السوري، فيجب ألا يقودنا ذلك الى تصفية حسابات معه. المفروض هو الانطلاق من الواقع اللبناني، لا من أخطاء الدبلوماسية الفرنسية، وهو أمر يبدو أن ماكرون أدركه»، يقول بيير كونيسا، أحد كبار الموظفين السابقين في الدولة الفرنسية والخبير في الشؤون الاستراتيجية.
كريستيان لومين، الخبير في مركز الدراسات الدولية التابع لمعهد العلوم السياسية في باريس، يشارك كونيسا استنتاجه، ويرى أن المقاربة الفرنسية براغماتية: «من المنظور الفرنسي، فإن من الأفضل العمل مع حزب الله مع معرفتنا الكاملة بحدود ما يمكن الوصول إليه معه لخضوعه التام لدولة أجنبية».
هامش المناورة الفرنسي يبقى ضيقاً برغم الضوء الأخضر الأميركي الذي حظيت به مبادرة ماكرون


إذا كانت فرنسا تعي ضرورة إيلاء الأولوية في الوضع الحالي للاستقرار والأمن، فإن سياستها في لبنان تبقى متمحورة حول مصالح استراتيجية وثقافية. «على الرغم من هشاشة لبنان، فإنه يمثل موطئ قدم لتعويم الدور الفرنسي واستعادة قدر من النفوذ بوسائل دبلوماسية في الشرق الأوسط»، وفقا لكونيسا. أما دوني بوشار، السفير السابق والمستشار في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، فهو يعتقد أنه إضافة الى الروابط التاريخية والاجتماعية - الثقافية بين البلدين، هناك اهتمام فرنسي متعاظم بمنطقة شرق المتوسط. وفي رأي العديد من الخبراء والمراقبين، فإن ترسيخ الوجود الفرنسي شرط ضروري لزيادة نفوذ باريس في هذه المنطقة. وقد تشكل الرغبة بتفاهم ظرفي مع طهران الرافعة الرئيسية المتوافرة لباريس للتصدي للنفوذين التركي والصيني في شرق المتوسط.
لكن هامش المناورة الفرنسي يبقى ضيقاً برغم الضوء الأخضر الأميركي الذي حظيت به مبادرة ماكرون الدبلوماسية. «من يتجرأ على الادعاء بأنه قادر على التحكم بلاعقلانية ترامب، الذي يمثل أميركا العميقة، والذي يراهن على الأزمات وعلى اختراع الأعداء لكي يتمكن من الفوز في الانتخابات؟»، يسأل كونيسا. كريستيان لوكين بدوره مقتنع بأن السياق الانتخابي الأميركي وإرادة ترامب بتلبية مطالب قسم من قاعدته ومن داعميه بين اليهود الأميركيين يضعفان احتمال النجاح الدبلوماسي الفرنسي. ومن الواضح أن تراجع الوزن السياسي والعسكري لفرنسا في السنوات الأخيرة قد حدّ جديا من قدرتها على بناء تحالفات على قاعدة التقاطع في المواقف مع لاعبين دوليين آخرين بعيدا عن السياسة الأميركية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا