التوافق يصنع القانون (Consensus facit legem) والعكس صحيح. لا يعني ذلك ان على المجرم والضحية ان يتوافقا لتحقيق العدالة، بل المقصود هو ان على معظم القوى في المجتمع ان توافق على هوية ونوعية وصدقية المحكمة التي تنظر في جريمة حصلت في بلدهم واستهدفت رئيس حكومتهم السابق. لكن، وللأسف، يبدو ان العكس ينطبق على الحكم المنتظر صدوره اليوم عن المحكمة الخاصة بلبنان في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين منذ نحو 15 سنة.ففي لبنان انقسام حاد بشأن المحاكمة والتحقيق منذ اللحظات الاولى لانطلاقه يوم وقوع الجريمة في 14 شباط 2005. وبعد صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة في تشرين الاول 2005 زاد الانقسام وارتفعت نسبة التوتر الداخلي. ورغم محاولات الامم المتحدة تخفيف وطأة توظيف التحقيق في الصراعات السياسية بين اللبنانيين مطلع عام 2006، من خلال استبدال المحقق الألماني ديتليف ميليس بالمحقق البلجيكي سيرج براميرتس الذي سعى الى الابتعاد عن الأضواء، لم يتوقف تراشق التهم بين اللبنانيين. وفي العام نفسه شن العدو الإسرائيلي عدزاناً على لبنان أدى الى استشهاد أكثر من الف شحص وجرح نحو عشرة آلاف بينهم أطفال ونساء وشيوخ ومعوّقون. وبدل ان يتوحد اللبنانيون لمواجهة عدوهم المشترك من خلال المطالبة بتوسيع صلاحيات التحقيق الجاري بإشراف القضاء اللبناني وبمساعدة اللجنة الدولية، وضم شهداء العدوان الإسرائيلي المجرم وجرحاه الى شهداء جريمة 14 شباط 2005 وجرحاها، سعى البعض، وعلى رأسهم الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة، الى التنازل عن السيادة الوطنية وتسليم مصير البلد الى «المجتمع الدولي». وبعد المطالبة بإنشاء محكمة دولية خاصة رفض السنيورة الملاحظات التي قدمها رئيس الجمهورية اميل لحود بحسب صلاحياته الدستورية، كما رفض رئيس مجلس النواب نبيه بري انعقاد مجلس النواب للبحث في مشروع انشاء المحكمة الخاصة. هكذا، انتهكت السيادة اللبنانية مرة جديدة من خلال قرار مجلس الامن الدولي 1757/2007 تحت الفصل السابع، والذي أنشئت بموجبه المحكمة الخاصة بلبنان من دون موافقة لبنان الرسمي عليها.

(أ ف ب, أرشيف)

قبل مرور عام على انشاء المحكمة، سُرّب جزء من التحقيق الى صحيفة المانية (دير شبيغل) ورد فيه ما بدا للبعض تفسيراً لتشديد القرار 1757/2007 على السير في المحاكمات الغيابية. اذ بدا وكأن القرار الدولي أساسه الضغط على حزب الله، من دون السعي الفعلي الى مواجهته بضربات مباشرة. فقد أشار تقرير «دير شبيغل» الى تركيز المحققين على ملاحقة مسؤولين وعناصر من حزب الله، علماً ان القبض عليهم شبه مستحيل بسبب قوة الحزب ونفوذه في لبنان. وبالتالي، فات اللبنانيين ان «المجتمع الدولي» سار بمشروع «المحكمة الخاصة بلبنان»، لا بهدف تحقيق العدالة للضحايا وللبنان، بل من اجل تشكيل قوة ضغط دولية على حزب يشكل تهديداً لمصالحهم في المنطقة. وتنبه الأمين العام حزب الله لذلك ما دفعه الى اتخاذ قرار باعتبار المحكمة «غير موجودة» وعدم مواجهتها بشكل مباشر.
في العام 2009، وبعد استعجاله من قبل الاميركيين والفرنسيين، قرر الأمين العام للأمم المتحدة بدء عمل المحكمة رسمياً. علماً ان المدعي العام فيها لم يكن جاهزاً لإصدار قرار الاتهام. لكن بدا يومها ان هذا الامر مفروغ منه، وأن المتهمين معروفون منذ الايام الاولى التي تلت الجريمة (وربما قبل ذلك). ولم يلاحظ اللبنانيون انه، خلافاً لجميع المحاكم الدولية الأخرى، تأخر صدور القرار الاتهامي عامين بعد انطلاق عمل المحكمة. وفي عام 2011 بدأ البازار القضائي بعد رفض قاضي الاجراءات التمهيدية دنيال فرانسين تصديق القرار الاتهامي لعدم تضمنه دوافع الجريمة ولتركيزه على الانتماء المذهبي للمتهمين الأربعة. وبعد مرور سبعة أشهر شهدت أخذاً ورداً بين القاضي والمدعي العام وتعديلات في صياغة الجمل واختيار المصطلحات، صدر قرار الاتهام. وبدا في النص إصرار المدعي العام على ربط المتهمين بحزب الله، علماً ان اختصاص المحكمة يقتصر على المسؤولية الجنائية الفردية كما ورد في المادة الاولى من نظامها.
وخلال تسعة أعوام مضت منذ صدور الاتهام، سارت المحاكمة الغيابية على قدم وساق. وبدت كمحاكمة أربعة «أشباح» لم يقابلهم احد من المحققين أو المحامين أو القضاة. وللمرة الأولى (ما عدا حالة واحدة في محكمة نورنبرغ منذ اكثر من ستين عاماً)، سيصدر اليوم حكم غيابي عن محكمة دولية. وسيفرض ذلك إعادة المحاكمة من النقطة الصفر اذا ظهر أي من المتهمين واعترض علناً على الحكم الصادر بحقه. يعني ذلك انه اذا حصل ذلك فعلاً، تكون مليار دولار قد انفقت هدراً.

القيمة الثبوتية للدليل الجنائي المزعوم
يتوقع ان تنشر المحكمة اليوم عشرات الصفحات التي تتضمن ما يزعم القضاة انها ادلة جنائية تتمتع بقيمة ثبوتية عالية. ولا بد من الإشارة الى أن قواعد الاجراءات والاثبات الخاصة بالمحكمة الخاصة تشير الى ان غرفة الدرجة الاولى تطبق «عند الاقتضاء»، أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني و«التي تتناسب مع أرفع معايير الإجراءات الجزائية الدولية». يعني ذلك ان الامر قد يختلط على بعض المحامين اللبنانيين المتابعين للمحكمة الخاصة. اذ ان القانون اللبناني يطبق فقط «عند الاقتضاء»، وليس صحيحاً ما يشاع عن اعتماد القانون اللبناني في إجراءات المحكمة الخاصة بلبنان. أما المرجع الصالح الذي يحدد «أرفع معايير الإجراءات الجزائية الدولية»، فهو بالدرجة الاولى غرفة الاستئناف في المحكمة نفسها، استناداً الى الاحكام والدراسات الفقهية التي صدرت عن المحاكم الدولية الأخرى والمراجع القانونية الدولية.
ويتوقع ان تطغى قرائن الاتصالات وداتا الاتصالات وتحليل حركتها على الدلائل الجنائية التي سترد في نص الحكم. وقد تتضمن بيانات وشرحاً مستفيضاً ومعقداً سيسعى من خلاله القضاة الى تبرير استنادهم الى هذا الدليل. كما يتوقع ان يستند الحكم الى دلائل ظرفية غير مباشرة ما قد يستدعي عرض عشرات الوقائع المزعومة غير المباشرة لإثبات وقوع حدث ما أو اتصال ما قام به المتهمون.
قد يتضمن الحكم تحليلات لمقابلات أجريت مع شهود سريين، أي أشباح يضافون الى المتهمين الاشباح!


ويرجح ايضاً ان يتضمن نص الحكم شرحاً مستفيضاً للتزامن المكاني للمتهمين، بحسب داتا الاتصالات وتقاطع المعلومات. وربطاً بذلك، قد يتضمن الحكم سلسلة من التحليلات لمقابلات أجريت مع شهود سريين (أي أشباح يضافون الى المتهمين الاشباح) وربطها بخلاصات تحليل داتا الاتصالات ليتمكنوا من عدها ذات قيمة ثبوتية اذ ان قواعد الاجراءات والاثبات تسمح باعتماد اقوال الشهود السريين فقط في حال تقاطعها مع مصادر أخرى.
ويتوقع ان يكون أبرز ما سيرد في نص الحكم الربط المزعوم بين المتهمين وحزب الله كتنظيم. وهذا الامر ضروري بالنسبة للمحكمة لتحديد دوافع الجريمة، خصوصاً بعد اعلان مكتب المدعي العام بأن «لا دوافع فردية» للمتهمين الأربعة. وفي هذا المجال، يرجح ان يتضمن نص الحكم تحليلاً للاطار السياسي مبنياً على شهادات بعض السياسيين اللبنانيين الذين قدموا افاداتهم امام المحكمة في لاهاي. وقد يكون لافتاً تقدم التحليلات السياسية على المعلومات الحسية التي تتعلق بكيفية عمل حزب الله وخصوصيات هيكليته التنظيمية ومنهجية عمله ونظام الاتصالات بين عناصره وقياداته.
ويعود ذلك لسبب بسيط: عجز فاضح للمدعي العام في تبيان الحقائق من خلال الدليل الجنائي الذي يتمتع بالقيمة الثبوتية، ما دفعه الى اللجوء الى تحليلات معقدة لداتا الاتصالات وحركتها.



ما المتوقع اليوم؟
سيتلى الحكم اليوم في جلسة علنية يكون الفريقان، الادعاء والدفاع، والمتضررون المشاركون في الإجراءات قد أبلغوا بموعدها مسبقاً ويكون لهم الحق في حضورها. كما سيصدر الحكم بأكثرية القضاة، وسيكون معللاً كتابة ومذيّلاً بأي آراء مستقلة أو مخالفة. ويرجح في هذا المجال تقدم القاضية اللبنانية في غرفة البداية ميشلين بريدي برأيها المخالف لبعض ما يتضمنه الحكم. وقد تستمر تلاوة نص الحكم نحو خمس ساعات.
أما العقوبة بحق المتهمين المدانين فلن تتلى خلال جلسة اليوم، بل تحدد لاحقاً بعد استشارة فريقي الادعاء والدفاع.
وستحدد اليوم الإدانة او البراءة بحسب التهم التي كان قد وجهها المدعي العام وهي بالنسبة للمتهم سليم عياش:
أولاً، مؤامرة هدفها ارتكاب عمل إرهابي،
ثانياً، ارتكاب عمل إرهابي باستعمال أداة متفجرة،
ثالثاً، قتل (رفيق الحريري) عمداً باستعمال مواد متفجرة،
رابعاً، قتل (21 شخصاً آخر إضافة الى قتل رفيق الحريري) عمداً باستعمال مواد متفجرة،
خامساً، محاولة قتل (226 شخصاً إضافة الى قتل رفيق الحريري) عمداً باستعمال مواد متفجرة.
أما بالنسبة للمتهمين حسين عنيسي وأسد صبرا وحسن مرعي فالتهم هي:
أولاً، مؤامرة هدفها ارتكاب عمل إرهابي،
ثانياً، التدخل في جريمة ارتكاب عمل إرهابي باستعمال أداة متفجرة،
ثالثاً، التدخل في جريمة قتل (رفيق الحريري) عمداً باستعمال مواد متفجرة،
رابعاً، التدخل في جريمة قتل (21 شخصاً آخر إضافة الى قتل رفيق الحريري) عمداً باستعمال مواد متفجرة،
خامساً، التدخل في محاولة قتل (226 شخصاً إضافة الى قتل رفيق الحريري) عمداً باستعمال مواد متفجرة.
ويحسم بعض العاملين في المحكمة في لاهاي حكم الادانة بحق عياش، انما يعتقدون ان تبرئة اي من المتهمين الثلاثة الآخرين جزئياً ممكنة، لكنها مستبعدة لعدم تعريض المحكمة لانتقادات لاذعة قد يوجهها ممولوها في نيو يورك الذين قد يمتعضون من الكلفة الباهظة لمكتب المدعي العام مقابل عجزه عن اثبات الجرم.
ولا بد من التذكير هنا ان مكتب المدعي العام كان قد لمح الى وجود نحو 32 شخصاً مشتبهاً بضلوعهم في الجريمة. لكن الاتهام، بعد سنوات طويلة من التحقيقات، وصرف مئات ملايين الدولارات، اقتصر على خمسة أشخاص.


ما المتوقع في المرحلة المقبلة؟
بعد صدور حكم بالإدانة يسمح لأي من فرق الدفاع او فريق الادعاء الذي يلتمس استئناف الحكم أو العقوبة، طلب الاستئناف المعلل في مهلة لا تتجاوز ثلاثين يوماً من تاريخ إعلان الحكم. ويتوقع ان يطلب احد فرق الدفاع استئناف الحكم بالإدانة خلال هذه المهلة. وبالتالي يتوقع ان يمدد عمل المحكمة للنظر في الاستئناف لعدة أشهر، وقد تطول مدة البت في الاستئناف الى اكثر من سنة، وهو ما يرتب على لبنان وعلى الدول الممولة للمحكمة أعباء مالية إضافية.
لكن حتى لو لم يستأنف أي من الفرقاء الحكم المتوقع صدوره اليوم، ستستمر المحكمة الخاصة بلبنان بعملها لسنوات للنظر في القضايا المرتبطة الثلاث وهي اغتيال السياسي جورج حاوي ومحاولة اغتيال الوزير الياس المر ومحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة.
ولا بد من الإشارة هنا الى احتمال إعادة المحاكمة اذ انه إذا اكتشفت بعد صدور الحكم النهائي أدلة جديدة مهمة «لم تكن معروفة من الفريق ذي المصلحة» وقت سير الإجراءات ومن شأنها أن تؤثر في الحكم بصورة حاسمة، «ولم يكن من الممكن اكتشافها ببذل العناية الكافية»، يجوز للدفاع أو للمدعي العام، خلال عام واحد من صدور الحكم النهائي، تقديم طلب إلى الغرفة التي أصدرت الحكم لإعادة المحاكمة بشأن حكم بالإدانة أو البراءة أو العقوبة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا