لون السماء الزرقاء، وشمس آب الحارقة ومياه المتوسط التي تتوهج تحت اشعتها. كأننا في غير زمان ومكان. اللوحة الصيفية لا علاقة لها بما هو على الارض. على الارض غبار ورمل صحراء. من اين أتى كل هذا الفضاء الارضي الفسيح؟ هل تفعل اكياس نيترات الامونيوم كل ذلك، ام هي فعلة المسؤولين عن الفساد والاهمال والاجرام الذين بـ «ايمانهم» قالوا لمرفأ بيروت ان انتقل فانتقل؟ هم الذين كنسوا الارض وأزالوا عشرات المستوعبات والعنابر والاهراءات، ونقلوا المرفأ - او نصفه - الى مكان آخر، ومعه أرواح 170 شهيداً وستة آلاف جريح وعشرون مفقودا.هذا المرفأ الذي كان اللبنانيون تاريخياً، في ايام النكبات، يودعون فيه مئات الاحبة المغادرين الى الخارج، ودع اليوم ايضا عشرات من ابنائه. ظلُّ اولئك الذين ذبحوا قلوب الناس بصورهم وضحكاتهم واصواتهم، سحر ومثال وحمد الشاب، الحلو ذو العينين العسليتين، ورالف وشربل ورامي، وجميع رفاقهم الشهداء من فوج الاطفاء والجيش والجمارك والامن العام والمدنيين العاملين في المرفأ، تراه فوق البقعة التي كان اسمها قبل السادسة من مساء الرابع من آب، العنبر رقم 12. هل يمكن ان يقف قاض او محقق او جندي امام هذه الحفرة، التي باتت كومة من حديد ولا يشعر برهبة الموت وبأرواح تطوف كما في الحكايات، ولا يسمع صوت امهاتهم وآبائهم ينادون عليهم من حيث فاجأهم الموت، او بالاحرى غدرهم أولئك الذين ستظل جريمة العصر ملتصقة بأسمائهم، ولو لم تصدر احكام قضائية في حقهم. ارض الموت البيضاء صارت عبارة عن حفرة، لا فرق كم تبلغ مساحتها وعمقها في وجدان من فقدوا احبتهم، تحولت مربعا امنيا بات اوسع مما كان عليه في الايام الاولى. النار انطفأت بعدما اكلت الحجر والحديد واعمدة الانارة والارصفة، و«جعلكت» الابنية والمستوعبات والعنابر، واخذت معها ارواحا فتية لا ذنب لها الا انها لبّت نداء عن حريق داخل افران «المحرقة» اللبنانية، فكانت اولى ضحاياه، لتكرّ سبحة الضحايا. عرفنا صورهم وحكاياتهم قبل ان نرى نعوشهم البيضاء والعلم اللبناني يلتف حولها. هل تتسع هذه المساحة الممتدة من البحر الى اليابسة لكل هذه الارواح دفعة واحدة؟ بحر بيروت كان وفياً لها. امتد الى اليابسة والى مصابين وشهداء، بفعل قوة العصف، ليساهم في امتصاص الجزء الاكبر منه منقذاً ارواح الالاف.
هنا، في المرفأ، لا اصوات زجاج محطم، ولا يوجد متطوعون يساعدون في الاغاثة، ولا كاميرات، ولا ضجيج. صمت مطبق، بعدما سكتت معظم الاصوات، صفارات الاسعاف وضجيج المحركات وبكاء المنتظرين صوتا من تحت الركام، صور الساعات والايام الاولى اختفت كما عجقة المسعفين والاطفاء والاهل المفجوعين الذين انتقلوا لدفن شهدائهم أو مواساة جرحاهم.
منذ اليوم الاول للانفجار، تغيرت مشاهد المرفأ امام عيون الامنيين والعسكريين، من مشهد الضحايا والنار في عتمة ليل الثلثاء الى مشهد الاهالي الباحثين عن احبتهم، الى الانقاذ وازالة الركام وتبيان الاضرار، الى مشاهد الذين يتفقدون ممتلكاتهم مع شركات التأمين لالقاء نظرة اولية على الاضرار.
وسط الصمت، تستمر اعمال الاغاثة والتفتيش عن المفقودين، فيما اعمال الفرق الهندسية متوقفة. على مقربة من بواخر القوات الدولية والفرنسية، شاحنات ومعدات للجيش في انتظار اوامر للتحرك مجددا. الدمار، يمينا ويسارا، على طول خط المرفأ الداخلي وصولا الى الحوض الخامس الذي لا يزال يعمل، لا يشبه اي دمار خلفته حروب سابقة ومعارك خاضها العسكريون. ليست هيروشيما ولا تشيرنوبيل. انها بيروت التي صار نصف مرفأها فحما اسود. لكن الداخل اليه يدهشه هذا البياض الواسع المطعّم بهياكل حديدية في لوحة تجريدية، وكأنها مجسمات كرتونية لمرفأ قيد الانشاء. هذه ببساطة كانت قبل 14 يوما عنابر تحمل ارقاما، محملة بكل انواع البضائع، لم يتبق منها شيء، بعدما سحلتها النار وقوة الانفجار. عنابر ضمت كل ما كان لا يزال يستورد او موضوع في حاويات لاجراء مزاد علني عليه، صارت مفتتة اذا لمستها باصبعك وقعت كلها كوما كوما. كل انواع البضائع، التي تشحن جماعيا قبل فرزها، صارت رمادا، السوق الحرة، والابنية الرسمية المولجة المتابعة الامنية او الادارية، تحولت نصبا تذكارية، لو تحكي قصص الاهمال والاوراق والتمريرات والفساد الذي جعلها ترابا وهياكل واقفة في انتظار هدمها. الاهراءات لم تعد تحمل من التاريخ سوى المأساة. بعضهم يرون فيها جدارا عازلا حمى نصف المدينة، وبعضهم يرى فيها حائطا حوّل العصف في اتجاه نصف المدينة. في الحالتين لم تعد تحمل عنوان القمح والخير. صارت خرابا شاهدا على شابة وشبان وقفوا امامها ورحلوا.
الطريق الداخلي الذي صار شبه سالك امام القوى العسكرية، كان الى الامس مليئا بالردم والحجارة واكوام الحديد. سعى الجيش وفرقه الاختصاصية الى تنظيف بعضه كي يسهل سلوك اعمال الاغاثة والانقاذ والتحقيق، قبل ان يتوقف عن التنظيف. فالى الامس كانت مهمات الاغاثة لا تزال مستمرة وكذلك التفتيش عن المفقودين من دون توقف، لا سيما في البقعة التي تحيط بالاهراءات وما تبقى منها. فيما البحث في الابنية والحاويات قد انتهى. لكن كل الاعمال الاخرى الهندسية والمتعلقة بالردم والتنظيفات توقفت كلها بأمر من المحقق العدلي فادي صوان. كذلك لم يعد «مسرح الانفجار» محصورا بالبقعة حيث وقع الانفجار المدوّي امام الاهراءات، انما توسع ليشمل بقعة اكبر جغرافية، تأكيدا لتوسع التحقيق وحفظ كل المكان الذي منع الدخول اليه بدءا من امس. توقفت كل انواع نقل الردميات التي خصص لها بقعتان، ولم تبدأ حتى اعمال الفريق الفرنسي الذي كان وصل الى لبنان للمشاركة في مهمات الجيش اللبناني، وعلى الارجح سيعمل الفريق حاليا خارج المرفأ في المناطق المتضررة. كل فرق التحقيق الاخرى غادرت، وفريق مكتب التحقيق الفيدرالي الاميركي لم يصل بعد.
بحر بيروت كان وفياً لها إذ امتد بفعل قوة العصف ليساهم في امتصاص الجزء الاكبر منه منقذاً ارواح الالاف


المرفأ بات في ظل قانون الطوارىء، تحت امرة الجيش الذي اصبح ايضا مسؤولا عن تسليم المساعدات التي تصل عبر مطار بيروت الى كل الجمعيات والمؤسسات الانسانية. عناصره منتشرون عند مداخله وداخله في اجراءات صارمة وعملانية، وكل الاجهزة الامنية باتت في المرفأ تحت سلطته. بعد الانفجار وقبل توقيف المدير العام للجمارك بدري ضاهر عقد اجتماع امني موسع في اليرزة للتنسيق، وحاليا تعقد اجتماعات امنية في المرفأ في الاطار ذاته تحت امرة الجيش. علما ان العمل في المرفأ في حوضه الخامس لا يزال مستمرا كما التنسيق لاستمرار وصول البواخر والعمل الاداري باشرافه. الاهم هو مواصلة الفرق العسكرية المختصة التفتيش عن كل مواد قابلة للاشتعال في ما تبقى من حاويات. اللوائح تتحدث عن 250 حاوية فيها مواد قابلة للاشتعال وليس للانفجار. وهذه المواد مسموح دخولها واستخدامها لاغراض صناعية. لكن بفعل الانفجار والاضرار صار لزاما البحث عنها واحتواؤها ومعالجتها. الكشف التام انجز ربع هذا العدد وعولجت المواد، في انتظار وزارة البيئة لتسلمها والتصرف بها، وسيتم الكشف على المواد المتبقية في عملية سريعة.
في المرفأ الكلام اليوم ليس عن التحقيقات. كل ذلك اصبح في يد القضاء، بل عن الضحايا والدمار. عن الدماء التي بقيت على ارضه، ويفترض ان يحترمها القضاء، كما اي مسؤول سياسي او امني جديد عن المرفأ، فلا يتعاملون مع النعوش البيضاء وكأنها ارقام كالعنبر رقم 12.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا