هل طوت فرنسا بإعادتها المجتمع الدولي الى لبنان المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون؟ظاهرياً، يبدو الجواب لبعض القوى السياسية إيجابياً، لأن الكتل السياسية التي كانت، قبل الانفجار، تضغط في هذا الاتجاه، غير مكتفية باستقالة الحكومة، تراجعت خطوة الى الوراء، واستعادت أنفاسها على خطين، إما الضغط لانتخابات نيابية مبكرة، أو تأليف حكومة نسخة عن تلك التي سبقت 17 تشرين الاول الفائت. لكن الواقع ان مجرد الضبابية التي احاطت بموقع الرئاسة منذ الانفجار، ليس فقط لجهة المسؤولية عن معرفة وجود المواد في العنبر الرقم 12، كاف وحده كي يعيد التذكير بمرحلة عام 2005. وما رشح من زيارات الوفود التي أمّت لبنان أخيراً، اشارت الى انه للمرة الاولى يصبح الكلام السياسي في بيروت عن موقع رئاسة الجمهورية بهذا الوضوح، وسط انطباعات أن رئيس الجمهورية كان حريصاً تماماً على محاولته تحييد موقع الرئاسة عن كل ما يحصل، بأي ثمن، في مقابل من اعتبر في محيطه ان هذه الوفود إنما أتت لدعم رئيس الجمهورية، وليس دعم اللبنانيين في محنتهم «ومنع انفجار البلد على غرار انفجار المرفأ»، بحسب تعبير معنيين مباشرة، إضافة الى ان الواقع الشعبي، من جراء آثار الانفجار في مناطق ذات أغلبية مسيحية، أسهم في إعادة تجييش حاد لجزء من الرأي عام، كما بعد 17 تشرين الاول، ضد رئيس الجمهورية. صحيح أن الانفجار كان عابراً للطوائف بالشهادة والأضرار والتدمير، لكن الواقع أنه أصاب مجتمعاً مسيحياً في شكل اعمق. وهذا الامر له انعكاساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالى جانب المأساة البشرية وقصص مئات الشهادات عن الموت المجاني والعبثي، فإن هذه المناطق الأكثر تضرراً، لم تستيقظ بعد من حجم المأساة التي أصابتها، لأن هناك منازل متضررة لم تُحصَ ولم يتفقدها أحد، وهناك شركات ومؤسسات تجارية تعرضت لتخريب كامل ومناطق لم تعد صالحة للسكن بكاملها. يضاف الى ذلك الهجمة الاستغلالية لاستثمار وجع الناس وعدم قدرتهم على التكيف مع واقع مالي متعثر كما عجزهم عن إصلاح الاضرار، لشراء مساحات منكوبة في قلب العاصمة، وهو أمر بات متداولاً على نطاق واسع. هذا كله، بدأ يترك بصمات واضحة على المسار السياسي لمستقبل القوى السياسية، بدءاً من رئيس الجمهورية، وكيف يمكن أن تخرج من وقع ما حصل؟
لا يزال وليد جنبلاط يكرر أن البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير هو الذي وقف معارضاً لإسقاط الرئيس اميل لحود عام 2005. صحيح أن صفير كان على عداء تام مع لحود، الا أنه رفض المس بموقع رئيس الجمهورية رغم الحملة التي شنّها مقرّبون من بكركي، وقوى 14 آذار، لإسقاطه في الشارع. منذ 17 تشرين، والحملة على عون المطالبة بإسقاطه ترتفع حدتها، لتتوّج مسار الاعتراض السياسي على أدائه ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل. رغم الانتقادات الاخيرة التي سبقت الانفجار واستقالة الحكومة، كان أداء رئيس التيار كواجهة وحيدة لأداء عون، أداءً مكابراً، ظهر بحدة مع تعيين سريع لخلف للوزير المستقيل ناصيف حتي، وقبلها حين عرضت قبل اسابيع فكرة استقالة حكومة الرئيس حسان دياب والاتيان بحكومة جديدة، حين قيل إن رئيس الجمهورية رفض توقيع أي مرسوم من دون اسم باسيل في التشكيلة الحكومية. مع الانفجار، أُربك رئيس الجمهورية وفريقه والتيار الذي تعمّد البقاء بعيداً عن الاعلام وعن الشارع المنكوب، قبل أن يحاول استعادة المبادرة في الساعات الاخيرة ويبدأ مجدداً الظهور انطلاقاً من عين التينة وإعادة تحريك بعض نوابه واستعادة الحضور الشعبي والسياسي، على قاعدة التنصل من أي مسؤولية من مرحلة سابقة، وإبداء المرونة امام المحاورين الدوليين بتسهيل الحكومة الجديدة. تحول الارباك مناسبة امام معارضي عون للمطالبة باستقالته، لأسباب مختلفة، مقرونة بمحاولة ضغط محلية متصاعدة على بكركي لعدم تكرار خطوة صفير، بدعم رئاسة الجمهورية بالمطلق، خصوصاً أن ظروف 2020 تختلف كلياً عن ظروف 2005، ولا سيما بالنسبة الى المعارضين المسيحيين. لكن في هذه اللحظات، جاء التدخل الفرنسي ومبادرات المجتمع الدولي، ليعيدا الى البعض رهانات سياسية على أكثر من خط. صحيح أن الرئيس سعد الحريري لم يطالب باستقالة عون مباشرة، لكن كثراً من حوله طالبوا بذلك أكثر من مرة، كما فعل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. لكن الانفجار واستقالة حكومة حسان دياب واقتراب موعد قرار المحكمة الدولية، عوامل أسهمت في سحب التصعيد، واستبداله بالعودة الى ترتيب الوضع الداخلي والعودة الى الواجهة مجدداً وكأن شيئاً لم يكن، من دون أخذ الامور الى مواجهة مكلفة، اذا اقتضت العودة الى السراي مساكنة جديدة مع العهد. لكن اقتراحات الحلول لا تزال في بداياتها، والاتصالات التي تجريها فرنسا لم تتضح صورتها النهائية بعد. فعدم الاخذ بإسقاط رئيس الجمهورية لا يعني بعد أن احداً استعمل ممحاة لمحو كل ما جرى في السنوات الاربع الماضية. ما قاله وزير الخارجية الالماني هايكو ماس قبل مجيئه الى لبنان وفي الزيارة، انه يجب أن يكون واضحاً لجميع المسؤولين ان لا مساعدات من دون اصلاحات، معطوفاً على استمرار ارسال واشنطن اشارات تحذيرية، من دون تناسي نمو الغضب الشعبي حيال جريمة المرفأ ونتائج التحقيقات والاسماء والمسؤوليات التي تكشف تباعاً، يعني ان من المبكر الاستعجال والكلام عن إزالة دولية للضبابية حول العهد. فالمشكلة لا تزال في بداياتها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا