لو خطّط أحد ما لتسريع الانهيار في لبنان، لما فكّر في خطة شيطانية كالتي أنتجت زلزال أول من أمس. الكل يعلم أن النقاش حول التفجير الهائل سيبقى مفتوحاً إلى أجل طويل، ولن تنفع معه تحقيقات رسمية ولا اعترافات أو غير ذلك. ففي بلاد كبلادنا، حيث تسيطر المافيات على كل شيء، لا مكان لحقيقة تتيح محاسبة عادلة. والمسرح مفتوح دوماً لعكاريت السياسية والاقتصاد والمال والدين الذين ينجون من كل حرب، ويعودون الى أعمالهم بازدهار. لا التاريخ يعلمهم ولا التجارب ولا دماء الناس.إعلان المحكمة الدولية إرجاء النطق بحكمها في قضية اغتيال رفيق الحريري الى 18 آب الجاري، بُرّر بما يجري في بيروت على ضوء انفجار المرفأ. لكنّ ثمة عقلاً استعراضياً يقف خلف القرار. عقل يقول إن موعد النطق بالحكم ليس مناسبة إدارية لمحكمة يفترض أنها محايدة، بل هو توقيت سياسي له مراميه البعيدة أيضاً. وإذا كانت كارثة أول من أمس قد تحولت الى الحدث الوحيد في لبنان، فإن أصحاب هذا العقل هم أنفسهم من يبثون اليوم شائعات عن أن التفجير كان مقصوداً للتغطية على النطق بالحكم. ولأن عقل هؤلاء يعمل بهذه الطريقة، قرروا الإرجاء، وكأنهم يقولون لنا علناً: نريده حدثا جللاً. وإذا ما حصل حدثٌ قد يُضعف الاحتفال بالحكم، فسنعمل على اختيار توقيت يعيد الى الاستعراض فرصته التي يفترض أن يكون دويّها أعلى من دويّ انفجار المرفأ.
عملياً، من كانوا ينتظرون موعد 7 آب لتحويله حدثاً قابلاً للاستثمار السياسي، أُجبروا على أخذ إجازة إجبارية لأيام. لكنهم قرروا استغلال الجريمة الرهيبة وشرعوا، مرة جديدة، في لعبة استجرار الدم بأي طريقة. هكذا، سمعنا كلاماً عن تحميل السلطة الحالية المسؤولية، ومطالبات بلجنة تحقيق دولية، ودعوة مجلس الامن الدولي الى التدخل... وسنسمع غداً من يدعو الرئيس الفرنسي الى القيام بما قام به جاك شيراك قبل 15 سنة. وغير ذلك، سنسمع الكثير الذي يعيدنا الى عام 2005.
مشكلة من يفكرون على هذا النحو أنهم يريدون تكرار التجربة من دون أن يرفّ لهم جفن. وهم يسعون الى تكرار ما فشلوا في تحقيقه من عدواني 2005 و 2006، معتقدين بأن الظروف مهيّئة لذلك، وسيكون جدول أعمالهم هو نفسه: نزع الشرعية الدولية (نفسها) عن السلطة في لبنان، والسعي الى جذب الجمهور صوب تحركات شعبية تقود الى استقالة السلطة أو إقالتها. والهدف، هنا، هو المجلس النيابي والسعي الى انتخابات مبكرة، وإيكال مهمة الإنقاذ الاقتصادي الى وصاية عربية وغربية تفرض شروطها التي تمتد من المطالب السياسية حيال المقاومة والعلاقة مع سوريا والشرق، وصولاً الى بناء نموذج اقتصادي قائم على فكرة تحويل اللبنانيين الى عاملين بالسخرة عند مجموعة نصّابين لم يتوقفوا عن سرقة كل شيء.
لكن إلى ماذا يستند هؤلاء؟
في هذه اللحظة، يسيطر على عقولهم هاجس الاستغلال الى أبعد الحدود. وعادة، تواكب هذه السياسات حسابات خاطئة لعناصر الأزمة ولوقائع الأرض. وبهذا المعنى، ينبغي لفت انتباه من يهمه الأمر، من قيادات هذه الجماعات والدول الراعية لها الى جمهورها المتحمّس، الى أن الأمور ليست على النحو الذي يفترضون:
- بالنسبة إلى الولايات المتحدة وأوروبا، فإن انفجار المرفأ سرّع في عملية الانهيار الاقتصادي والمالي الى أقصى ما يمكن أن يكون عليه الوضع في لبنان. فقد تسبّب الانفجار، عن قصد أو غير قصد، في حرق مراحل من عملية التهديم الممنهج لقدرات البلاد. وبالتالي، صار هؤلاء في حاجة إلى الإجابة عن السؤال الحقيقي: هل يبادرون الى احتواء الموقف، أم سيتفرجون على لبنان يذهب طواعية الى العنوان الأنسب للمساعدة؟ وسنسمع في الايام القليلة المقبلة الكثير من الكلام الغربي عن ضرورة توفير المساعدة العاجلة للبنان، ليس بهدف حماية بقيتنا، بل منعاً لوصول الشرق الذي سيكون أكثر حضوراً من المرات السابقة.
- الفرنسيون الذين خسروا لبنان يوم وقّع جاك شيراك ورقة مطالب جورج بوش في المنطقة، سيحاولون حجز مقعد إلزامي لهم في إدارة ملف لبنان. والزيارة «الإنسانية» للرئيس الفرنسي الى بيروت، اليوم، لن تفتح له الأبواب إذا كان مُصرّاً على اعتماد المقاربة الاميركية لمعالجة الازمة. فأمام فرنسا فرصة لاستعادة الدور، إذا قطع ماكرون مع إرث شيراك - بوش. أما إذا لم يفعل، وجرّب «التشاطر» كما فعل وزير خارجيته، فسيعود الى باريس مثقلاً بالهواجس التي تسبق الخيبات الكبرى.
- عرب أميركا الذين يعتقدون أنها الفرصة المناسبة لإجبار لبنان على تلقّي مساعدات مشروطة، سيرفعون من سقف توقعاتهم أيضاً، وسيطالبون أنصارهم ومرتزقتهم، هنا، برفع السقف عالياً لتحصيل تنازلات أساسية تقوم على تبديل واقع السلطة القائمة، وإعادة فريق 14 آذار الى الحكم، مصحوباً بعناوين تستهدف أولاً وأخيراً ضرب المقاومة في لبنان. وإذا كان هؤلاء يتّكلون على الأدوات نفسها التي عملوا عليها لعقد ونصف عقد، من دون جدوى، فستكون خسائرهم مضاعفة هذه المرة.
إذا لم يقطع ماكرون مع إرث شيراك - بوش فسيعود الى باريس مثقلاً بالهواجس التي تسبق الخيبات الكبرى


- إسرائيل، التي انتظرت عام 2005 انهيار الجدار الداخلي الذي يحمي المقاومة، وانتظرت حصد نتائج الغزو الأميركي للمنطقة وخروج القوات السورية من لبنان، ثم نفذت طلبات أميركية – توافق مصالحها – بشنّ حرب مدمرة على لبنان عام 2006، تفترض اليوم، وفق حسابات غير واقعية على الإطلاق، أن المقاومة تعاني الأمرّين في لبنان. ويبدو العدو - في سلوكه العسكري والأمني والدبلوماسي - وكأنه يقرأ خطأً في كتاب المقاومة. وربما يوجد بين قادته، السياسيين أو العسكريين أو الأمنيين، من يغامر في التفكير، وقد يذهب هؤلاء الى حد القيام بمغامرة على وقع الأزمة الداخلية في لبنان. هؤلاء الذين يراهنون على أن يؤدي انفجار المرفأ الى إلغاء حزب الله قرار الرد على جريمة سوريا، يفكرون مرة جديدة بطريقة خاطئة، لأنهم يعتقدون أن المقاومة في ورطة، وأنها تحتاج الى سلّم للنزول عن الشجرة. لكنهم سيدركون أن رد المقاومة واقع حتماً، وسيكون دموياً ضد قوات الاحتلال، وهدفه عقابي وردعي أيضاً. لكن ما يحاول العدو المكابرة في شأنه، اعتقاده بأن المقاومة لا تريد حرباً واسعة، وبالتالي هو يقرأ هذه الخلاصة على أنها إشارة ضعف، لكنها قراءة خاطئة بالمطلق. المقاومة التي لا تريد حرباً، لكنها لا تريد أيضاً نوعاً من المعارك بين الحروب، تنتج ما قد لا تنتجه حرب إسرائيلية شاملة. وبالتالي، فإن المقاومة التي أرست معادلة الردع خلال أربعة عقود، مستعدة حتى لخوض حرب تدفع فيها إسرائيل الأثمان غير المقدّرة أيضاً.
- في لبنان جبهة سياسية أصابها الهريان. كل القوى التي شكلت فريق 14 آذار، وحكمت البلاد منفردة منذ عام 2005، وبدعم العالم كله، لم تنجح في إصلاح مدرسة. حتى جريمة تخزين المواد التي انفجرت في المرفأ، هي من نتائج أعمالها وسياساتها ومن عيّنتهم في مواقع المسؤولية. وهي مسؤولة، أولاً وقبل أي أحد آخر، عن هذه الجريمة الموصوفة. وإذا كان قادة هذا الفريق يفكرون بطريقة معاكسة، وأن بمقدورهم رمي المسؤولية على حسان دياب لإصابة حزب الله، فهم يكررون الخطأ تلو الخطأ. حتى إن تقديرهم حيال تصرف حزب الله في الداخل ليس دقيقاً على الإطلاق. صحيح أن حزب الله لا ينوي التورط في مشاكل داخلية، وهو تجنّب كل الاستفزازات الداخلية والإقليمية خلال عشرين عاماً وأكثر، وهو سيستمر في هذه السياسة، إلا أن وقائع لبنان الداخلية لم تعد كما كانت عليه قبل 15 سنة. فلا هم في موقعهم الشعبي ولا نفوذهم هو ذاته، وهم يعرفون أيضاً أن غضب الناس على السلطات في لبنان إنما يصيبهم قبل غيرهم. أما اللجوء الى تسعير المناخات الطائفية والمذهبية، فالجواب على ذلك ربما سمعوه جميعاً من بيت الوسط.
في زمن الحسابات الخاطئة، يفترض بمن يجد نفسه معنياً بمنع محاولة إغراق لبنان في الدماء، أن يميّز بين الحقائق، وأن يقدّر جيداً الوقائع والأحجام والأوزان، وأن يتعرّف جيداً إلى قدرة الخارج على التدخل. لكنّ الأهم هو أن عليه أن يعرف أن لبنان تغيّر فعلاً، وأن ما يفكرون في أنه «لبنانهم» الذي خلقه الاستعمار على هذه الصورة قبل مئة عام، لم يعد له وجود سوى في أغنياتهم وأناشيد الأطلال، وكل صراخ أو كلام مرتفع أو غضب على طريقة خلافات أولاد الأحياء، لن يفيد في تعديل الصورة. ولا مجال مطلقاً لإعادة فرض الفيلم نفسه، لمرة خامسة على هذا الشعب المسكين... اتّقوا الله يا جماعة!