لم يحصل أن ضربت الفوضى قطاع المقالع والكسارات والمرامل والترابة كما يحصل الآن. فوضى في العمل والتسعير والإدارة والتشريع والتهرّب الضريبي… إضافة إلى التخريب المتمادي والهدر في موارد الطبيعة وأموال الخزينة معاً.فرغم قرار مجلس الوزراء في 02/07/2020 السماح بنقل وتصريف الناتج (ستوكاج الرمل أو البحص أو الصخر) في المقالع والكسارات لمدة شهرين، لا تزال أسعار هذا القطاع خيالية وتخضع لقواعد السوق السوداء! مع أنّ هذا القرار، كما بات معلوماً، يعني إعطاء مهل جديدة للعمل غير الشرعي، والسماح بمتابعة أعمال الحفر والتكسير ليلاً! مع الإشارة إلى أن القرار جاء بناء على اقتراح وزير الداخلية وليس وزير البيئة الذي يترأس المجلس الوطني للمقالع والكسارات والذي كان يُفترض أن يطلب مهلة من ضمن إطار تنظيميّ معيّن، وليس على طريقة تشريع الفوضى كالمعتاد!
وفي ما يتعلّق بشركات الترابة، فلا تزال الفوضى تضرب الأسعار، رغم قرار مجلس الوزراء تسعير الطن بـ 65 دولاراً (وفق السعر الذي حدّده مصرف لبنان بـ 3800 - 3900 ليرة للدولار).
أمّا على صعيد إعادة تشغيل معامل شكا، فقد عرض وزير البيئة في جلسة 14/07/2020 بعض التناقضات في مقاربة الإطار القانوني الذي يسمح للشركات باستعمال مقالعها لاستخراج المواد الأوّلية للإنتاج، وطلب من مجلس الوزراء استشارة الهيئة الاستشارية العليا في وزارة العدل في هذا الشأن… فيما طلب وزيرا الصناعة والاقتصاد السماح مؤقتاً لشركات الترابة بالعمل في مقالعها، نظراً إلى الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد!
وكانت وزارة البيئة قد توقّفت عند الإشكالية التالية: هل يجوز السماح باستئناف استثمار مقالع شركات الترابة القائمة والعاملة، أم ينبغي اللجوءإلى «الاستثمار التأهيلي»، كما طرح في مشروع المرسوم الذي وافق عليه مجلس الوزراء (17/9/2019)، أو الاكتفاء بالسماح بالتأهيل فقط (كما نصّ المرسوم رقم 8803 بتاريخ 04/10/2002)؟ كما سألت عن المسوّغ القانوني الذي يقضي بموجبه الإجازة بـ«الاستثمار» أو «الاستثمار التأهيلي» أو «التأهيل» في مقالع شركات الترابة القائمة والعاملة؟ وهل يمكن أن يكون المسوّغ القانوني «مجتزأ»، بمعنى أن يلحظ موضوع مقالع شركات الترابة دون غيرها من المقالع؟
صحيح أن مجلس الوزراء وافق على إحالة الموضوع إلى الهيئة الاستشارية العليا في وزارة العدل، إلّا أنّ من يتابع الملف يعرف أن مقالع الشركات ليست مُدرجة في المرسوم التنظيميّ والمخطّط التوجيهيّ للمرسوم التنظيميّ عام 2002، وأن التراخيص التي حصلت عليها الشركات من مجلس الوزراء لعشر سنوات، بين 1997 و2007، جاءت قبل صدور المرسوم (2002)، وبالتالي لم تستطِع هذه الشركات، بعد صدور المرسوم، أن تحصل على تسوية أوضاع قانوناً، رغم اجتهادات مدير عام البيئة لمصلحتها. وأن الأمور لم تحسم إلّا عن طريق تمديد المهل الإدارية للأوضاع غير الشرعية، أو عبر الاحتيال على القوانين تحت عناوين مثل «الاستثمار التأهيلي»، أي متابعة الاستثمار بحجة التأهيل! مع العلم أيضا أن بدعة «التأهيل»، تتضمن اعترافاً من كل الأطراف المعنية بأنّ الأعمال أدت إلى تشويهات كبيرة، أكثرها لا يعوّض، وأن خسارة الخزينة لا تقلّ فداحة عن الخسائر في الطبيعة وفي الأرواح جراء الأمراض التي تصيب العمال وسكّان المنطقة. وكان على المسؤولين، لا سيما في وزارة البيئة، الإعداد لاستراتيجية متكاملة لكيفية إدارة هذا القطاع، ولمشروع قانون حديث ومتطوّر يأخذ في الاعتبار كلّ العوامل الاقتصادية والبيئية والصحية والاجتماعية… ويساهم في حماية البيئة وتحصيل العائدات الحقيقية من هذا القطاع والتي تقدّر بمليارات الدولارات.
صحيح أن مجلس الوزراء وافق في النهاية (في انتظار صدور رأي الهيئة الاستشارية العليا) على السماح لشركات الترابة، بصورة استثنائية ولفترة تجريبية، بتنفيذ مشروع تأهيل المواقع كما هو مفروض بموجب القوانين لفترة أقصاها ثلاثة أشهر، تحت إشراف ورقابة ممثلين عن رئاستي الجمهورية والحكومة ووزارات البيئة والصناعة والصحة والزراعة واتحاد البلديات المعنية وهيئات التعليم العالي وهيئات من المجتمع المدني… إلّا أنّ كل ذلك لا يُغني عن وجود استراتيجية شاملة وقوانين ناظمة، ولجنة تضع أسس المحاسبة على الفترة السابقة.
كما يتبيّن من هذه النتيجة «التجريبية» و«الاستشارية»، أن الحكومة نفسها «تجريبية»، وليس لأعضائها أي خبرة أو تجربة أو خلفية لإدارة مثل هذه الملفات، بعد أن ثبت طوال السنوات الماضية في حكومات ووزارات ما بعد الطائف، أن الوزارات المعنية، ليس فيها مدراء عامون ولا كادرات تستطيع أن تكون مؤتمنة على إدارة الموارد والشأن العام والأموال والصحة العامة، وهي كانت تعمل عند المستثمرين وليس عند الدولة... وأن مشروع الثورة لم يكتمل ومشروع بناء الدولة القوية والقادرة لن يتحقّق مع الطبقة نفسها من الحكّام والمدراء والمستشارين غب الطلب.