قبل 154 سنة، أسّس المبشّر المسيحي الأميركي دانيال بليس «الكلية البروتستانتية السورية»، قبل أن تتحول، عام 1920، الى «الجامعة الأميركية في بيروت»، ويُطلق اسم بليس على الشارع الذي تقع فيه مباني الجامعة في رأس بيروت.قبل أربع سنوات، في ذكرى مرور 150 سنة على تأسيسها، كتب رئيسها الحالي، فضلو خوري، كلمات أغنية أنتجت في هذه المناسبة، ومما قاله: «...نادراً ما كان العالم أكثر ظلاماً، عندما عبر حكيمٌ البحار. المهمة التي كان يسعى إليها، كادت تجعله يستسلم. شاهد الشرق وهو يظلم، وشعوبه في محنة. في البداية، أنشأ كلية صغيرة، معقل للحقيقة والنور. رؤيته استمرت في النمو، في زمن الحرب والنزاع. اهتمت بالمريض والفقير والجريح، وعلمت البائس الأكثر فقراً...».
لكن فضلو خوري، في حقيقته، لا يختلف عن غيره من اللبنانيين الذين تولّوا مناصب رئيسية في مؤسسات لها موقعها العام، حتى ولو كانت شركة خاصة. هو ابن جيل الخراب الذي حلّ على لبنان منذ توقف الحرب الاهلية، وابن أصيل للنزعة الليبرالية وفروعها الجديدة المتوحشة التي عملت على جعل كل شيء في الحياة على شكل سلعة. ومن اختاره لهذا المنصب، لم يكن يرى فيه سوى التلميذ النجيب للنموذج الاميركي الحديث الذي ينتج أمثال دونالد ترامب. جيل من أبناء العالم الثالث، ممن يتملّقون للرجل الأبيض و«يتميّزون» بأنهم من رافعي الشعارات الكاذبة. وجلّ اهتمام هذا الجيل الحفاظ على مناصب وامتيازات والتصاق أكبر بالحلم (اقرأ الكابوس) الاميركي. بدا خوري الأكثر استعداداً للسير في برنامج احتكار العلم والعمل، وأدار سياسة تسعير للإنتاج العلمي والطبي، جعلت الجامعة ومستشفاها يتخليان تدريجياً عمّا فعلاه في سنوات الحرب الاهلية، من كسر للأبواب أمام الطبقات الفقيرة. عاد فضلو ليكرس النظرة الفوقية والطبقية بين أبناء مجتمع يفترض أن يكون الأكثر انصهاراً في آخر أحياء بيروت المدنية والمتنوعة سياسياً وطائفياً واجتماعياً. ولما كان من المستحيل إعادة برنامج «الاختيار الخاص»، عمد الى ترسيخ سياسات توظيفية وبرنامج رواتب وخدمات عزّز الانقسام الاجتماعي داخل الجامعة. وفي السنوات الاخيرة، صارت هناك قلة من الإداريين والأطباء والأساتذة، لا تتجاوز نسبتها عشرة في المئة من مجموع العاملين، تحصد امتيازات ورواتب تجعل الفارق بينها وبين بقية الموظفين كبيراً جداً جداً جداً.
مشاريع التطوير التي شهدتها المؤسسة خلال العقدين الماضيين، لها ملفها الخاص، وكذلك مصادر التمويل والتبرعات ونوعيتها وحجمها. لكن المشكلة ليست في أن الجامعة كانت على الدوام، ومنذ تأسيسها، تلعب دوراً سياسياً وثقافياً بارزاً في بلاد الشام، بل في كون فضلو خوري عمد الى رفع الغطاء عن المستور، وصار يتصرف على أنه لاعب مركزي في المشهد اللبناني. لم يكتف فقط بانتزاع مكانة خاصة تميّزه والجامعة عن بقية المؤسسات الشبيهة في لبنان، بل صار يتصرف على أن في إمكانه اختيار من يجب أن يكون في سدة الحكم والمسؤولية في البلاد. وكانت فجاجته وعجرفته الأكثر وضوحاً في سلوكه السياسي منذ عام الى الآن، عندما أعلن نفسه رائداً لحركة التغيير في لبنان، وقائداً ثورياً وشعبياً، ثم حاكماً يقرر إذا ما كانت هذه الحكومة جيدة أو لا، وتصرف كأن الأزمة التي أصابت مؤسسته ليست نتاج سياسات عامة سادت البلاد ومؤسسته. فتحت إشرافه، جرت أكبر عملية نفخ للجامعة ونفقاتها. وحتى عندما وقعت الأزمة، تصرف كابن بار لـ«حزب المصارف» الذي يريد إلقاء اللوم على الآخرين، وأن يدفع الناس ثمن الخسارة مرتين. وها هو خوري يريد أن يدفع الأجراء وصغار العاملين في الجامعة ثمن إدارته السيّئة التي اتّسمت بعدم التخطيط والفوضى والهدر، إن لم يكن أكثر... ولأنه ابن النظام التافه نفسه، نسي لساعات دعوته السلطات الحاكمة في لبنان الى احترام حقوق الناس والموظفين، ولجأ الى السلطة التي يهاجمها يومياً، طالباً من وزارة العمل فيها تغطية جريمته – المجزرة بحق الموظفين، وطالباً من القوى الأمنية منع أي احتجاج أو حتى أن يعلو أنين المطرودين من جنته، وبدأ برنامج ترهيب ضد من بقي في الجامعة، محذّراً كل من يعترض أو يرفع صوته بمصير من رماهم على رصيف الحمرا.
فضلو خوري، الابن الاصيل لنموذج الوحشية الاميركية، لم يترك تفصيلاً لم يلجأ اليه في تنفيذ جريمته. تجاهل مع أركان مؤسّسته كل المبادئ الخاصة بالشفافية والقيم الإنسانية والأخلاقية. وعمل، في ليل مظلم، على ارتكاب جريمته الكبيرة بحق العاملين. وسعى منذ اليوم الاولى الى توريط الجميع. و«متل الشاطر»، توجه الى المرجعيات الحاكمة في البلاد طالباً الغطاء لما يريد القيام به. أدار لعبته وفق قواعد طائفية ومذهبية ومناطقية، تماماً كما يحصل في دولة يتجرأ هو على الدعوة الى تغيير قوانينها وقيادييها. وحاول منذ اليوم الاول فرض «السطوة» على وزارة العمل والمحكمين وعلى نقابة العاملين لديه، وعلى إدارة الاقسام المعنية داخل مؤسسته. حاول أن يقوم بعملية صرف على أساس الأزمة الاقتصادية، وكان يريد التخلص من أكثر من ألف موظف مع تعويض لا يتجاوز الشهور الأربعة لكل منهم. وكان يسعى للحصول من الموظفين على تفويض يمنعهم من أي تحرك قضائي ضده لاحقاً، وهو أمر متاح اليوم (في لبنان والولايات المتحدة) أمام أي أجير يرفض الاتفاق بين نقابة الموظفين وإدارة الجامعة. كما رفض وضع جدول واضح بالأسماء، أو حتى إعطاء وزارة العمل حق التدقيق في موازناته للتثبت من حقيقة الأزمة. أكثر من ذلك، رفض توصية مجلس الشيوخ في الجامعة باللجوء الى إجراءات، مثل تقليص نسبة من النفقات العامة وحتى رواتب كبار الموظفين منعاً لصرف الموظفين الصغار. ورفض البحث في إعادة هيكلة الموازنة العامة للجامعة، واعتبرها مهمة موازية. بل حتى إنه حقق لذّته الشخصية بممارسة الانتقام ممن كانوا أقرب مساعديه في الفترة السابقة، وأطاح كل ما عملوا عليه خلال عقدين، ولا سيما في الجسم الطبي.
أدار خوري لعبته وفق قواعد طائفية ومذهبية ومناطقية تماماً كما يحصل في دولة يتجرأ على الدعوة الى تغيير قوانينها وقيادييها

والأكثر وقاحة، أنه كلّف مجموعة من المديرين العاملين في أقسام الإدارة والمالية وشؤون الموظفين بوضع المعايير الخاصة بالصرف. وعند انتهائهم من مهمتهم، منتصف الاسبوع الماضي، أرسل في طلبهم وأبلغهم قراره بطردهم أولاً، وكانوا أول مجموعة من المديرين، ضمّت ديفيد ديب، ردينة حداد، عماد صادق، وليد عثمان ، إيمان قوتلي وبترا خوري (الأخيرة أراد إبعادها لأسباب كثيرة، أبرزها أنها قريبة من الرئيس حسان دياب الذي تحول فجأة الى العدو الرئيسي لفضلو خوري بعد حزب الله). وعندما جرت محاولة لمناقشته في سبب إصراره على صرف غالبية من موظفي المركز الطبي وليس من الإدارة الجامعية، عاد ليتحدث عن خططه الخاصة وبرامجه البديلة في الجامعة لمنع الوقوع في الأزمة. لكنه تجاهل أن الكل يعلم أن تحصيل الأرباح الخيالية سيظل ممكناً في قاعات التدريس، حيث تنهال المعونات وأموال الدعم، بينما صار من الصعب عليه تحقيق نسبة الأرباح الخيالية نفسها من الاستشفاء والطبابة.
خوري الذي لم يهتم لرأي أحد، سيحاول محاصرة المعترضين من داخل المؤسسة. وهو يعرف جيداً أن حالة الاستياء كبيرة جداً داخل الجسمين الطبي والتعليمي، وبعض هؤلاء سيعتصمون اليوم تضامناً مع المصروفين، ويحتجون على ضرب خوري لجانب من الصورة الإنسانية للجامعة، وعلى عدم استشارتهم في خطوة كهذه، لوجود بدائل غير الصرف الذي أدى الى خسارة أشخاص يؤدون وظائف حيوية. وبعدما رفض رؤساء الأقسام أن يتولّوا إبلاغ العاملين معهم قرار الصرف مسبقاً، عاد وألزمهم بالقيام بالمهمة، وأرسل لكل منهم لائحة المصروفين من العاملين معه، قبل أن يقطع كل صلة لهؤلاء الموظفين بشبكة العمل الداخلية، ويحيلهم الى قسم الموارد البشرية لتلقّي تعويضاتهم ابتداءً من اليوم.
خوري أصلاً، لا يعترف برأي أحد غير رأيه، وهو المفوّض من قبل المشرف الأعلى الموجود دائماً في العاصمة الاميركية. وهو يتصرف براحة، ليس لأنه لا يخشى أحداً في بيروت، بل لأنه يعرف أن ما يقوم به اليوم هو جزء من الدور المنوط به من جانب واشنطن وحلفائها الذين يمارسون كل أنواع الضغط على لبنان، دولة ومؤسسات ومجتمعاً. حتى هذا الاستعراض الهوليودي الذي قام به، والضجة التي حصلت، جريا بطريقة تخدم فكرة أن لبنان يقع تحت ضغوط لتحميل المسؤولية الى الحكومة الحالية ومن خلفها حزب الله. واللافت أن كل أركان الحراك الاجتماعي وكل قادة البلاد الذين لا يتركون شاردة أو واردة في استنكار ما يجري، لم يخرجوا بأي تحرك جدّي أو مواقف لافتة تجاه ما حصل. وحده من يظل يمثل ضمير الناس والبلاد، الرئيس سليم الحص، استنكر ما حصل، واصفاً إياه بالعمل «المشين الذي يصل الى مستوى الجريمة والمؤامرة».
ما جرى في الجامعة الاميركية، وما يتوقع له من تداعيات، لن يكون خارج لعبة الضغوط المقيتة التي تقودها الولايات المتحدة بواسطة المتعاملين معها في لبنان، من سياسيين وعسكريين وأمنيين وأكاديميين ومصرفيين وإعلاميين. وهو حدث سيحفظ في الذاكرة كمثال سيّئ لأبناء النموذج الأميركي اللا إنساني. وإذا كانت قواعد اللعبة في لبنان تعفي خوري وأمثاله من الحساب، فإن أبناء هذه المؤسّسة يتحملون اليوم مسؤولية استرداد المكانة المفترضة لهم كرافعة للتقدم وحماية حقوق الناس في العلم والعمل والكرامة.
ليعد فضلو خوري الى كلمات أغنيته في ذكرى تأسيس الجامعة، لكن، ليكن صريحاً معنا ومع نفسه ولو لمرة واحدة، وليعزف لنا من جديد، لحن كارهي أنفسهم وأهلهم وبلدهم كرمى لعيون مجنون يحكم العالم!