قبل عشر سنوات، اختار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بلدة الكواشرة العكاريّة، ليبدأ زيارته اللبنانية، جنباً إلى جنب مع رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري. كثيرة هي التحوّلات والأحداث في العقد الأخير، لكن الثابت أن الدور التركي في لبنان يتمدّد، وبمنهجية واضحة المعالم، لا تشبه تلك التي تعتمدها دول الخليج، في صرف الأموال بعشوائية.خلال الأشهر الماضية، ارتفع الصوت هنا وهناك في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام حول دورٍ تركي في أحداث الشمال، ودعم لمجموعات تتخذ المطالب المعيشية غطاءً لها، بدءاً من منتديات بهاء الحريري، ومجموعات أخرى تقطع الطرقات وتحرّض ضد الجيش اللبناني.
ويوَجَّه الكثير من الاتهامات الأمنية العلنية للأتراك والاستخبارات التركية في أحداث الشمال، وآخرها إشارة وزير الداخلية والبلديات محمد فهمي إلى «جهة خارجية»، من دون أن يسمّي تركيا.

(مروان طحطح)

إلا أن أياً من الأجهزة الأمنية اللبنانية لم يضع حتى الآن تصوّراً ملموساً عن دور أمني تركي مباشر في تحريك مجموعات على أرض الشمال. طبعاً، ليس لأن الاستخبارات التركية لا يمكن أن تنخرط في أعمال من هذا النوع، وهي التي سلّحت ودرّبت ودعمت وسهلت دخول عشرات الآلاف من الإرهابيين إلى سوريا من كل بقاع العالم، ولا سيّما من الجمهوريات السوفياتية السابقة، ولا تزال حتى اليوم تدير جزءاً كبيراً من هذه المجموعات لفرض نفوذها وتتريك مساحات من الشمال والشرق السوريَّين، بل لأن أساليب العمل التركية في لبنان (ولو كان الهدف مشابهاً ببسط النفوذ)، تختلف عن أساليب العمل في سوريا... حتى الآن.
منذ ما قبل زيارة أردوغان لعكار، تزامن الاندفاع التركي نحو لبنان مع الاندفاع نحو سوريا، الذي توّج بسلسلة تفاهمات اقتصادية وسياسية بين 2009 و2010. لكنها سرعان ما اهتزّت مع رفض سوريا طرح أردوغان على الرئيس السوري بشار الأسد مشاركة تنظيم الإخوان المسلمين في الحكومات السورية، وانهارت تماماً مع التحوّلات الاميركية تجاه سوريا مطلع عام 2011 وتطور الأعمال العسكرية في إدلب وحماة ضد القوات السورية، وعمليات تشجيع السوريين على النزوح إلى الداخل التركي.
ومنذ ذلك الحين، يستثمر النظام التركي في الفروع العربية لتنظيم الإخوان المسلمين، من سوريا إلى العراق إلى فلسطين والأردن ومصر وليبيا وموريتانيا والسودان والجزائر وتونس واليمن، وصولاً إلى الصومال وجيبوتي في القرن الأفريقي ودول آسيوية وأوروبية عديدة (وذلك بحثٌ آخر)، بالتوازي مع دعم قطر في مواجهة دول التحالف الخليجي ومصر بعد سقوط الرئيس السابق محمد مرسي.
ولبنان ليس محيّداً عن هذا النشاط. فمنذ العام 2006، ودخول القوات التركية كجزء من قوات اليونيفيل إلى لبنان، وجّه الأتراك منظمة «تيكا» (TIKA)، أو «وكالة التعاون والتنسيق التركية»، للعمل في لبنان، ومواكبة «الانفتاح» التركي نحو الشرق، بعد تركيز المنظّمة منذ عام 1991 على العمل في البلدان السوفياتية السابقة، وتلك التي تضمّ من بين سكّانها مواطنين من أصول تركمانية. وعلى ما يرد في الموقع الرسمي للمنظمة، فإنها تحوّلت مع الوقت إلى «أداة من أدوات تطبيق السياسة الخارجية التركية في العديد من الدول والمناطق».
اليوم، يمكن القول إن النشاط التركي في لبنان يتخّذ أشكالاً عديدة، تصبّ جميعها في اتجاه واحد، هو تعزيز النفوذ التركي داخل بيئة المسلمين السنّة في لبنان، وتحديداً في الشمال، ومواجهة النفوذ السعودي ــ الإماراتي المتآكل أصلاً، في حرب قيادة «العالم السنّي» المندلعة بين السعودية وحلفائها من جهة، وتركيا وحلفائها من جهة أخرى، على امتداد العالم القديم، من جاكرتا إلى نواكشوط.
في التقديرات، أن عدد المستفيدين اللبنانيين من المنح التعليمية في تركيا خلال 15 عاماً، يتجاوز 10 آلاف شخص، وغالبية هؤلاء تعلّم اللغة التركية، وعلى متابعة دائمة مع برامج الدعم التركية في الشمال، إن عبر منظّمة «تيكا» التي تعمل على تقديم المساعدات للبلديات والجمعيات الأهلية في محافظتي طرابلس وعكّار عبر إقامة مشاريع محدّدة، كفتح الطرقات وحفر آبار مياه الشرب والرّي وتقديم المساعدات الغذائية، أو عبر مؤسسات غير حكومية تركية، أو حتى منظّمات مدعومة من قطر، تصبّ خدماتها في نهاية الأمر لصالح الأجندة التركية.
الخطّ الآخر، هو حالة الاحتضان لعدد من الشخصيات السلفية في الشمال، مثل الشيخ سالم الرافعي، بعد أن لمست تلك المجموعات تراجعاً سعودياً عن الاهتمام بلبنان، بالتوازي مع الدعم التركي المستمر للجماعة الإسلامية، الفرع اللبناني لتنظيم الإخوان المسلمين.
ثالثاً، تنشط السفارة التركية في بيروت، في البحث عن اللبنانيين من أصول تركية وتركمانية، لتشجيعهم على الحصول على الجنسية التركية. ولا ينحصر هذا الملفّ ببضعة آلاف من المواطنين اللبنانيين من أصول تركمانية في عكار وقرى محيطة بالكواشرة، إلّا أن ذلك يمتدّ إلى بعض عشائر البقاع (ومنها عشائر أو عائلات شيعية)، بهدف إعطاء هؤلاء جنسيات تركية، على قاعدة تاريخهم كـ«مواطنين في السلطنة العثمانية» أو من أصول تركية أو تركمانية. وفي تقديرات أكثر من جهة تواكب النشاط التركي، أن عدد المستهدفين في مشروع الجنسية التركية حوالى 50 ألف لبناني.
رابعاً، تتحرّك السفارة التركية وعدد من رجال الأعمال اللبنانيين والأتراك للعمل سريعاً على تغطية حاجة السوق اللبنانية من السلع، وتعويض هذا النقص بسلع تركية تتناسب مع القدرة الشرائية المتراجعة، إضافة إلى حملات تشجيع اللبنانيين الراغبين الاستثمار في القطاع الزراعي حالياً، على الاستثمار داخل تركيا في مشاريع زراعية. وهذه الإجراءات، وإن كانت «إيجابية» على المدى القصير في تأمين سلع غذائية وصناعات خفيفة بأسعار رخيصة نسبياً، إلا أنها على المدى المتوسط والطويل أيضاً تحرم المنتجات اللبنانية التي من المفترض أن تنتعش مع تطوّر الأزمة، أي آمال بالتطوّر في ظلّ المنافسة القوية المحتملة، فضلاً عن أن الرأسمال المطلوب لتطوير القطاع الزراعي اللبناني سيكون عرضة للتسرّب نحو تركيا للاستفادة من سلّة تقديمات تركية حكومية للاستثمار الأجنبي، ما يعني أيضاً حرمان لبنان من رأسماله المحلي بدل اغتنام الفرصة للاستثمار في المشاريع الزراعية المحليّة. ولعلّ أحد أبرز أسباب الانتكاسة التي تعرّض لها الاقتصاد السوري قبيل الأزمة في 2011، هو إغراق الأسواق السورية بالمنتجات التركية، ما أثرّ بشكل كبير على النمو الصناعي في حلب، وعلى مجمل القطاع الصناعي في ريف دمشق.
ولا ينكر الأتراك أن نيّتهم إدخال ما يستطيعون من صناعاتهم إلى الداخل اللبناني، والفوز بالكم الأكبر من السياح اللبنانيين وتوجيههم نحو تركيا. لكن طبعاً، تنفي مصادر السفارة التركية في بيروت أن يكون للأتراك أي نشاط أمني، أو دعم لمجموعات تخريبية، وتنكر تحديداً علاقتها ببهاء الحريري. وفيما يتمسّك الأتراك برواية حرصهم على الأمن اللبناني، يؤكّد أكثر من مصدر متابع لنشاط تركيا، أن الأعمال الأمنية التركية في لبنان «ما زالت في طور التبلور»، وأن من يقود الأعمال هم «مجموعة من الضباط السوريين المنشقّين من سكّان مدينة طرابلس، وهؤلاء يمثّلون دور الوسيط بين رجال الاستخبارات التركية، وبعض الخلايا الأمنية في المدينة».
تنشط السفارة للبحث عن لبنانيين من أصول تركمانية لتشجيعهم على حيازة الجنسية التركية


ولعل العنوان الأبرز في الصراع التركي ــ السعودي على الساحة اللبنانية، هو عمليّة الاستقطاب التي تقوم بها تركيا لمسؤولي ومناصري تيار المستقبل، بعد انحياز الوزير السابق أشرف ريفي الواضح إلى الدور التركي في الشمال منذ استِعار خلافه مع تيار المستقبل. وبحسب مصدر دبلوماسي عربي، فإن جزءاً لا بأس به من مسؤولي المستقبل، ومن بينهم مقرّبون جداً من الحريري، باتوا ينسّقون مع تركيا ويتودّدون إليها، في الوقت الذي لا يردّ فيه الأتراك التحوّل في داخل المستقبل إلى التراجع السعودي عموماً في لبنان. كما أن قواعد تيار المستقبل، ولا سيّما رؤساء بلديات ومخاتير في الشمال، يندفعون نحو تركيا، مع غياب أي رؤية سعودية أو إماراتية للملف اللبناني، واكتفائهم بالدعم المحدود المبني على المساعدات العينية والمالية، بدل ترسيخ المشاريع المستدامة في المنهجية التركية.
ولا يمكن تناول الدور لتركي المتجدد في شمال لبنان، بعيداً عن سياق معركة التوسّع التركي على كامل المتوسّط. وإذا كانت التفاهمات التركية ــ الروسية اليوم تضبط أردوغان تحت سقف الحفاظ على المصالح الروسية، فإن المستقبل يبعث على الأسئلة، ولا سيّما المخاوف الروسية والإيرانية من نيّة تركيا إيجاد أرضية ضغط على سوريا انطلاقاً من الشمال اللبناني تتكامل مع الضغط الآتي من إدلب، فضلاً عن أن لبنان لن يكون محيّداً عن صراع القواعد العسكرية الذي تنخرط فيه تركيا من الصومال إلى قطر إلى ليبيا، ووجود سعي حثيث لحلف «الناتو» لبناء قواعد عسكرية جديدة تتوازن مع القواعد الروسية الاستراتيجية في طرطوس واللاذقية.

جزء كبير من مسؤولي تيار المستقبل باتوا ينسّقون مع تركيا ويتودّدون إليها


ولا يقف القلق عند الحدود الأوروبية، إذ إن الاستخبارات الألمانية والفرنسية، ودولاً أوروبية أخرى، تتابع عن كثب التطوّرات في الشمال اللبناني. وبحسب مصادر دبلوماسية غربية، فإن «الدور التركي في لبنان بات جزءاً من أجندة تركية تبدأ في أوروبا والبلقان وبلغاريا وقبرص واليونان وصولاً إلى البحر المتوسط، وشمال لبنان نقطة مهمة على هذه الخريطة. خطوة إعلان كنيسة آيا صوفيا مسجداً تكشف الكثير عن نيّات أردوغان تجاه أوروبا».
قبل أسابيع، طرح المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم مجموعة من الملاحظات حول الأداء التركي، خلال اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، على قاعدة ضرورة مراقبة الدولة اللبنانية ما تقوم به الجهات الأجنبية في الداخل اللبناني. وكذلك قام إبراهيم بالاتصال بالسفير التركي في بيروت هاكان تشاكيل، واستفهم منه عن علاقة تركيا بمجموعات (تحمل أعلاماً وتنخرط في نشاطها الاجتماعي في الشمال) تقوم بأعمال تهدّد الأمن وتقطع الطرقات، فأكّد السفير أن تركيا لا تحرّض أحداً ولا تغطّي المخلّين بالأمن».
فهل ستنتظر الدولة أن تتحوّل طرابلس إلى ساحة اشتباك مفتوحة بين المتنازعين على «السنّة»؟ أم أن قواعد «المسموح» و«الممنوع» ستنطبق على الأداء التركي، لتجنيب لبنان صراعات جديدة في غنًى عنها؟



ريفي يهاجم المشنوق: العين على الشمال
ما إن انتشر مقال على موقع «أساس» التابع لوزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، والذي يتحدّث في جزء منه عن علاقة المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي أشرف ريفي بتركيا، وعن الدور التركي في الشمال بشكل عام، حتى رد ريفي عبر «تويتر» على زميله السابق في كتلة المستقبل الوزارية، متّهماً إياه بـ«العمالة» لسوريا وحزب الله. ويكشف السجال، الصراع الخفي في داخل الساحة السنية، ولا سيّما بين الشخصيات المحسوبة على «الحريرية»، بشأن خيارات الالتحاق إما بالجبهة التركية، أو بجبهة الإمارات والسعودية ومصر. ومما لا شكّ فيه أن الاشتباك بين ريفي والمشنوق، لا يوضح الصورة الكاملة للصراع في طرابلس، التي باتت تشهد انقساماً بين المجموعات السلفية واستعداد الجميع لاستكمال المعركة الليبية على أرض شمال لبنان. ولا تغيب عن المشهد محاولات تهريب السلاح المتكررة الى طرابلس من إدلب وغيرها، والتي أحبط الجيش السوري العديد منها، آخرها قبل أيام، حيث أوقف في محيط منطقة القصير، يوم الثلاثاء الماضي، حمولة أسلحة فردية وجهتها السوق السوداء في شمال لبنان.