لا يزال الانقسام السياسي والحكومي، قائماً حول مسألة التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، مع استمرار إصرار الرئيس ميشال عون على تولّي شركة «كرول» الأميركية هذه المهمّة. فخلال الأسبوع الماضي في جلسة الحكومة، طرح عون موضوع الشركة وسط تضارب الاتجاهات بين الوزراء، ما دفع الرئيس حسّان دياب إلى طلب الاستمهال من عون. ثم عاد رئيس الجمهورية وتلقّف طرح وزير الصناعة عماد حب الله بتأجيل النقاش إلى جلسة لاحقة. إلّا أن هذا المشهد يمكن أن يتكرّر في الجلسة المقبلة، مع غياب الاتفاق على اسم شركة بديلة.الموقف لدى حزب الله وحركة أمل برفض تكليف الشركة، لا يبدو أنه سيتغيّر مع المعطيات الموجودة، والتي قدّمتها أوّلاً الأجهزة الأمنية، تحديداً الأمن العام ومخابرات الجيش، حول الشخصيات البارزة في «كرول» وعلاقتها مع إسرائيل ودورها في بعض القضايا العالمية. وبحسب مصادر سياسية رفيعة المستوى في فريق 8 آذار، فإن الموقف يتلخّص بأن «كرول أو غيرها، إذا كانت تربطها علاقة مع إسرائيل من غير المقبول أن تكلّف بمَهامّ داخل لبنان وخصوصاً من هذا النوع».

من اعتصام أمام السفارة الأميركية في عوكر، أمس، دعت إليه منظمات شبابية وطالبية، «تنديداً بالتدخّلات الأميركية في السياسة الداخلية اللبنانية، ورفضاً للحصار الأميركي الجائر على لبنان، وتضامناً مع الشعب الأميركي ضدّ العنصرية» (مروان طحطح)

ووفق ما علمت «الأخبار»، فإن عون ينتظر من الأجهزة الأمنية إعداد تقارير جديدة عن الشركة، مع قناعته بأن ما قيل عن علاقتها مع إسرائيل «مضخّم». ويأتي موقف عون مدعوماً من عددٍ من المستشارين والسياسيين في التيار الوطني الحر وفي داخل الحكومة بين الوزراء المحسوبين على التيار، كوزيرة العدل الحالية ماري كلود نجم، والوزير السابق سليم جريصاتي الذي يتولّى مهمّة الدفاع عن الشركة و«مهنيّتها». في المقابل، بدأت شخصيات أخرى في التيار، ولا سيّما المحيطين بالوزير جبران باسيل، يلمسون استحالة موافقة ثنائي حزب الله وأمل على «كرول»، وخصوصاً أن الأميركيين كانوا قد طرحوا سابقاً تكليف «كرول» التدقيق الجنائي في «جمّال ترست بنك» قبل سنتين، إلّا أن الجهات اللبنانية رفضت ذلك. وتبيّن لدى أصحاب الرأي الآخر في التيار الوطني الحر، من البحث البسيط، أن «كرول ليست من ضمن الشركات الأولى عالمياً في مجال التدقيق الجنائي»، من دون أن يُفهم سبب إصرار الرئيس وبعض المحيطين به عليها. وبدأ هؤلاء بالبحث عن مخارج بديلة، تحقّق مطلب الرئيس بالتحقيق الجنائي ولا تقلق حزب الله بارتباطاتها بإسرائيل.
وجاء موقف الرئيس سعد الحريري من بكركي أول من أمس، برفضه مبدأ التدقيق الجنائي في المصرف المركزي من أساسه، ليعبّر عمّا يجري الحديث عنه عن لسان شخصيات تيار المستقبل والنائب السابق وليد جنبلاط، بأن هدف عون «انتقامي لا إصلاحي»، وأن «ما يريده رئيس الجمهورية هو الانتقام من المرحلة الماضية ومن الحريري تحديداً ومعه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة». في المقلب الآخر، يبدو التدقيق الجنائي بالنسبة إلى الرئيس نبيه بري «أبغض الحلال». فهو يفضّل أن لا يحصل في المصرف المركزي تدقيق جنائي «مع نوايا مسبقة من قبل عون»، لكنّه في الوقت نفسه لن يعطّل الأمر مع حزب الله، طالما أن الشركة التي ستُكلّف بالأمر مهنية ومحايدة. وعلى ما تسرّب من لقاء بري وباسيل، فإن ملامح تفاهمٍ ما حول مسألة التدقيق الجنائي باتت تلوح في الأفق، مع المعلومات عن تقديم باسيل لبري لائحة بـ25 اقتراحاً «إصلاحياً» من الممكن أن تقوم الحكومة بها لـ«كسب ثقة المجتمع الدولي وتحسين شروط التفاوض مع صندوق النقد»، جلّها من الاقتراحات السابقة للتيار، ولا سيّما مسألة استعادة الأموال المهرّبة وإقرار وتفعيل قوانين مكافحة الفساد.
من جهة ثانية، وفي حال الاتجاه نحو بدء التدقيق الجنائي من مصرف لبنان، فإن الحلول البديلة المقترحة، تُغلق الباب أمام الشركات الأميركية، وتفتح الباب أمام شركات أوروبية اسكندنافية أو ألمانية أو فرنسية، حيث تنتشر عشرات الشركات ذات المصداقية والخبرة، بما يبعد احتمال التوظيف السياسي الأميركي والإسرائيلي لنتائج عمل الشركة المكلّفة.
سلّم باسيل بري ورقة «إصلاحية» من 25 بنداً لإقرارها وتفعيلها في المجلس والحكومة


أما الاقتراح الثاني، فهو تشكيل لجنة تدقيق جنائي من قضاة لبنانيين يتمتعون بالسمعة الحسنة للقيام بأعمال التدقيق. وهذه التجربة، في حال التوصّل إلى اتفاق سياسي حولها، بتكليف القضاة من خارج لعبة المحاصصة الطائفية والسياسية التقليدية، يمكن أن تشكّل نموذجاً مشجّعاً، كخطوة متقدّمة تحفظ السيادة اللبنانية من انكشاف إضافي أمام جهات خارجية، وتعيد الثقة إلى القضاء وإلى مفهوم الدولة، مع تآكل ما تبقّى منها تحت وطأة الانهيار الاقتصادي والانقسام السياسي.

«حقوق الإنسان» تحذّر وتراجع أميركي «تكتيكي»
في سياق آخر، بدا تحذير مفوّضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشليه من أن «الوضع في لبنان، الذي يواجه أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، يخرج بسرعة عن السيطرة»، بعد التماس غالبية القوى الإقليمية والدولية، تسارع الأزمة في الداخل نحو انفجار غير محسوب النتائج.، وخصوصاً أن حزب الله لجأ إلى إدخال عناصر جديدة على مستويات المواجهة كالتفاهم مع الصين وتلقي الدعم الإيراني النفطي، لإيجاد حلول تخفّف من وطأة الأزمة الاقتصادية وتكسر الدورة الكلاسيكية في لبنان، بدل المسارعة إلى الانكفاء أمام الهجمة الأميركية وتعاظم التحديات الداخلية.
أما الجزء الثاني من كلام باشليه وقولها إن «بعض اللبنانيين الأكثر ضعفاً يواجهون خطر الموت بسبب هذه الأزمة» وإنه «علينا التحرك فوراً قبل فوات الأوان»، يتوافق أيضاً مع تطوّرات الأيام الأخيرة، وبدء البحث الجدي الغربي، لتقديم مساعدات معيّنة للبنانيين، بعد اتجاهات سابقة، بترك الأوضاع تتفاقم في البلد. وتضمن المساعدات الغربية عدم خروج الأمور في البلاد عن السيطرة، واستباق إمكان قيام حزب الله بأيّ خطوات جذرية على مستوى العلاقات التجارية مع إيران، إضافة إلى تأمينها استمرار النفوذ السياسي.

قاسم: إذا أوصلونا إلى المحلّ الصعب فلدينا خيارات صعبة مختزنة لدى القيادة


هذا التحوّل الأميركي الأوّلي، وصفه نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم أمس، بأنه «تراجع تكتيكي»، مؤكّداً في مقابلة مع قناة «المنار»، بأن «حزب الله يقوم بمنظومة حماية وجهوزية تجعله قادراً على منع فرض خيارات الآخرين عليه». وقال إنه «إذا أوصلونا إلى المحل الصعب فلدينا خيارات صعبة وهذه مختزنة لدى القيادة نستخدمها في الوقت المناسب، الخيار الصعب تحدّده هذه القيادة وقد يكون مجموعة أمور أو اتجاهات».
واعتبر قاسم أن «كلّ الحديث عن رحيل الحكومة هو فقاعات إعلامية وسياسية تعبّر عن تمنيات السفيرة الأميركية ومن لفّ لفّها»، مؤكداً أن «هذه الحكومة باقية ويجب منحها الفرصة الكافية والعمل معها ودعمها، والشعب معنيّ بحماية الحكومة لا مواجهتها لأن البديل هو الفراغ»، وأن «موقف الحزب هو مواجهة الفساد بلا سقف وفي كل مكان».
وعن التهديدات الإسرائيلية وإمكانية وقوع الحرب، جزم قاسم بأنّه «إذا وقعت الحرب مع إسرائيل فستكون قطعاً هي الجهة الخاسرة، قدرات المقاومة وحضورها أكبر بكثير من تموز 2006، وإسرائيل تعي ذلك جيّداً».