تختلف مقاربة سياسيين للكباش الأميركي الإيراني على الأرض اللبنانية عن جنوح بعض السياسيين الى التعامل معه على أنه نهائي ولا رجعة عنه. ثمة براغماتية أميركية اعتادها الشرق الأوسط في ترتيبات تخلص - في لحظات معينة - الى تهدئة ظرفية حين يكاد الجميع يسلم بأن فتيل الحرب اشتعل. ولبنان أكثر من خبر سياسة واشنطن هذه، في كل مرة تقف فيها مصالحها عند عتبة استحقاق معين، كما حصل حين لزّمت لبنان الى سوريا. كذلك الأمر حين سعت الى أنواع متغيرة من الحلول الآنية غير المكتملة، فيما تُبقي خطوطها العامة تحت عنوان متشدّد. هكذا حصل في كل التسويات التي أنتجت حلولاً موقتة في لبنان، إن عبر مؤتمرات أو غض الطرف عن تفاهمات محلية وإقليمية كما في انتخاب العماد ميشال عون وقبلها تأليف حكومة الرئيس تمام سلام. كذلك الأمر مع ترتيبات معلقة كما في القرار 1701 الذي تركته مع بنود غير نهائية ومفتوحة على آفاق مستقبلية، فيما أثارت خشية حلفائها في المنطقة في أسلوب تعاملها مع حلفائها في سوريا بعد اندلاع الحرب فيها. رغم تغير الإدارات الاميركية بقي هذا الطابع البراغماتي قائماً، لكنه اليوم في ظل إدارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب ووزير خارجيته مارك بومبيو، يثير الخشية أكثر، لكون الطرفين أكثر تشدداً، ويتركان توقعات غير مسبوقة.في المقابل، اعتادت إيران أن تتصرف ببراغماتية أيضاً، كما دلت عليها سياستها في العقود الاخيرة، يسمح لها أن تخرج متحررة من قيود سقوف عالية رسمتها سياستها الخارجية. ما يعني لبنان في تقاطع هاتين السياستين أو مواجهتهما في هذه المرحلة، علماً بأن العقلين الاميركي والإيراني يفتشان في نهاية المطاف عن مصالحهما المشتركة، هو أن المشهد العام مأزوم في المنطقة لا يساعد على تخفيف الاحتقان الثنائي، لكنه قد يأخذ أبعاداً مختلفة في موازاة الانهيار الاجتماعي والمالي والاقتصادي في لبنان. وهذا يمكن أن يتحول عاملاً مساعداً، ليس لحل الأزمة تحت سقف الكباش الثنائي، بل لإنتاج ترتيب ما، كما حصل في استحقاقات سابقة. وهذا ما يقلق الفرنسيين حالياً، ودائماً السعوديين، ليس في الملف اللبناني فحسب، بل أيضاً في ملفات المنطقة ونقاط التقاطع المشتركة، ويثير تخوف حلفاء واشنطن في لبنان.
تضغط واشنطن في شكل دائم على إيران، لكن تصعيدها الأساسي بات يستهدف حزب الله في لبنان وخارجه، الأمر الذي يجعل منه النقطة الأكثر تعرضاً لهجوم دولي وأوروبي وعربي ومحلي. وهذا التصعيد الذي ترى واشنطن انعكاس فائدته، بدليل الانهيار الاجتماعي والاقتصادي في لبنان، يضاعف مبدئياً من أوراقها التي تمسك بها في مواجهتها مع إيران. وفي الايام الاخيرة، حفلت العلاقة الثنائية بأمثلة ترتيبات ومواجهات في آن واحد، من بيروت الى طهران. لكن التصعيد الكلامي وكل إشاراته الحادة، ومنها ما هو مستحدث وغير تقليدي، لا يلغي أن هناك توقعات ورهاناً على متغيرات نوعية قد تسهم في تخفيف الاحتقان المحلي. ولكل طرف غايته المختلفة؛ أحد أشكال هذا المتغير هو تأليف حكومة جديدة. لكن هذه الحكومة لا تنتجها باريس أو السعودية، لكن تتحول العاصمتان عنصراً مساعداً لها حين ينضج الترتيب الثنائي، وتكون إيران مستفيدة منه على قاعدة سحب الحزب من دائرة الضوء ورمي كل الانهيار في حضنه، ولا سيما في ظل النزعة الى تحميله كل أوزار المشكلة المالية والاقتصادية، فيما ينسحب جميع المتورطين الآخرين من المشهد المالي، حتى من أقرب حلفائه، سواء العهد أم الشريك في الثنائية الشيعية، الذين يضاعفون من عوامل تطويقه الداخلي، إضافة الى أن المشهد الدولي بات غير مؤات لاحتضان لبنان ومفاوضات صندوق النقد الدولي أقرب الى الحائط المسدود. وأي ترتيب من هذا النوع يؤدي الى سحب الحزب من الواجهة وإعادة تقديم مشهد جديد، من دون المس بالأسس التي تبقي العوامل المحلية العامة على ما هي عليه، مع ضخ جرعة تغيير بسيطة في انتظار التسوية الأكبر. فلا واشنطن ستخفف من عقوباتها التي لا تزال تستخدمها كسلاح أشد فتكاً من أي حرب، ولا إيران تذهب الى تسوية نهائية ما دامت ملفاتها الخاصة الداخلية والاقليمية معلقة مع واشنطن. وما يساعد في تطوير هذا الاتجاه هو فشل الحكومة الحالية والتعثر الذي تشهده يومياً، فتصبح عاجزة عن تقديم أي خيار بديل كما كان متوقعاً من حكومة اللون الواحد. ورغم أن حزب الله لم يقطع خطوط الاتصال بالرئيس سعد الحريري، لا قبل تأليف الحكومة الحالية ولا بعدها، إلا أن أي استقالة لحكومة الرئيس حسان دياب غير واردة مهما بلغت عثراتها الكثيرة والمتخبّطة، إن لم ينضج في شكل كامل شكل الحكومة الجديدة. يبقى أن الطرفين لن يستعجلا أو يغامرا بخطوات كبيرة في توقيت خاطئ لكليهما، أي قبل الانتخابات الاميركية الرئاسية، ما يترك لبنان في قلب مرحلة صعبة ستتضاعف حدتها في شكل غير مسبوق.