فيما الضغط الأميركي مُستمر ولا يقبَل العودة عن هدف القضاء على المقاومة، داهَم المشهد اللبناني أمس قرار الحكومة «الإسرائيلية» (نقله موقِع «إسرائيل ديفنس»)، عن منح تراخيص للتنقيب عن الغاز في بلوك «ألون د»، الذي يقَع في مُحاذاة البلوك 9 في الجانب اللبناني. تقنياً (وبحسب الخرائط) لا يُمكِن اعتبار القرار بمثابة اعتداء على لبنان، لكون الموقِع المذكور لا يدخُل ضمن نطاق المنطقة المتنازَع عليها. سياسياً، الأكيد أن «لا حرب»، ولكن «ضغط في اتجاه جرّ لبنان إلى التفاوض من جديد تحتَ الحصار» على ما تقول مصادِر مطلعة.منذ اكتشاف الثروة النفطية في البحر، تحوّلت الحدود اللبنانية البحرية مع فلسطين المحتلّة إلى جبهة جديدة، في ظلّ محاولة «إسرائيل» السطوَ على مساحة كبيرة من المياه اللبنانية، إلى أن تقرّر الشروع في مفاوضات غير مباشرة برعاية الأمم المتحدة وبمشاركة ووساطة أميركيتين لم تصِل إلى خواتيمها. تجمّد الملف منذ نحو عام، إذ لم يستكمِل مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر تذليل العقبات التي توقفت عندها المباحثات التي قادها سلفه ديفيد ساترفيلد، وأبرزها تلازم الترسيم بينَ البرّ والبحر، وهو ما رفضته «إسرائيل» وأميركا.
مصادر فريق 8 آذار: الملف كان وسيبقى في عهدة عين التينة


في لبنان كانَ ثمة من يُجاري أميركا في وجهة نظرها: الذهاب الى الترسيم البحري وترك البرّ إلى وقتٍ لاحق، والاستفادة من هذا الاتفاق بحجة أنه «سيعود بالخير على لبنان». تكفّل رئيس الحكومة السابِق سعد الحريري بتسويق الفكرة بعدَ لقاءات جمعته بمسؤولين أميركيين، عادَ بعدها ليحاول إقناع الداخل بسحب ملف التفاوض من رئيس مجلس النواب نبيه بري ليكون في عهدة حكومته. تحدّث الحريري إلى حزب الله أكثر من مرة، مؤكداً أن «صديقه جاريد كوشنير، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعده بعوائد مالية، وهو يريد أن يقدّم له هدية في المنطقة». لم تحظَ هذه الفكرة بأي فرصة عند حزب الله الذي أكد للحريري أن «الملف كان وسيبقى في عين التينة». فشِل انتداب الأميركيين للحريري بهذه المهمّة، لكنهم عادوا ليستكملوها مع آخرين.
حملَت الأسابيع الأخيرة المزيد من كشف الأوراق حيال الحصار الذي تشنّه أميركا على لبنان، والتي تكشّفت أكثر فأكثر على لسان مسؤوليها، من وزير الخارجية مايك بومبيو ومساعده شينكر، وصولاً إلى السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، وصبّت جميعها في الإطار نفسه: رفع الحصار مرهون بقبول لبنان بالشروط الأميركية، المُعلن عنها هو الانقلاب على حزب الله. لكن ما لم يُحكَ في العلن حتى الآن، ورد في الملف الذي حملته شيا معها في لقاءاتها مع عدد من المسؤولين اللبنانيين، تحديداً إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس تكتل «لبنان القوي» جبران باسيل (راجع «الأخبار»، 18 حزيران 2020)، وكانت شيّا صريحة في قولها بأن «حلّ الملف أو إعادة إحياء التفاوض سينعكس ايجاباً على البلاد وسيخفّف الضغط عنها». وكانَ لافتاً، بعدَ جسّ النبض الذي قامت به السفيرة شيا، تحرّك من بعبدا في اتجاه عين التينة يحمِل رسالة نقلها عدد من الوسطاء، من بينهم المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم، تتضمّن رغبة الرئيس عون في استرداد ملف التفاوض وإدارته بنفسه، لأن «الدستور خصّ رئيس الجمهورية بحق التفاوض مع الدول الأجنبية». وكانَ جواب بري أقرب إلى «سنرى».

تصميم سنان عيسى

من هذه النقطة، تنطلِق مصادر مطلعة على كواليس المشاورات التي كانت تحصل بينَ مسؤولين لبنانيين وأميركيين أخيراً للقول بأن «ما قامت به إسرائيل قد يكون طلباً أميركياً للتوتير، يساعد في الضغط على لبنان من أجل جرّه الى استئناف المفاوضات من جديد، ولكن تحت الحصار المالي والاقتصادي». وأضافت المصادر أن «فريق رئيس الجمهورية لم يُعاود فتح النقاش في استرداد الملف بعد أن لمسَ تجاهل بري للموضوع»، لكن الأكيد أن «الأميركيين لمسوا من عون وباسيل استعداداً للتعاون، وفسّروه كالتزام لبناني من شأنه أن يعيد فتح ملف التفاوض». وأضافت المصادر أن «عون، حين قرر اقتراح استرداد الملف من بري، كانَ ينوي تغيير إطار التفاوض وآليته، بحيث يُمكن إدخال تعديلات على الإطار الموحد الذي التزم به الرؤساء الثلاثة في المحادثات مع الموفدين الأميركيين، من بينها ربما فصل التلازم البري والبري، خاصة أن عون كانَ مؤيداً للفصل، وقد عبّر عن ذلك في أحد اجتماعات مجلس الدفاع الأعلى». وعليه، تقول المصادر إن «الخطوة الإسرائيلية تصبّ في هذا الإطار، بشكل يسمح للأميركيين بممارسة ضغط أكبر عبرَ التهويل على الدولة اللبنانية بأن عدم الدخول في مفاوضات سيعود بنتائج سلبية على لبنان، إن من حيث عدم قدرته على استخراج النفط والاستفادة من الثروة، أو عدم الحصول على أي مساعدات من صندوق النقد الدولي في حال أصرّ لبنان على موقفه السابق». وهذا الأمر، بحسب المصادر، «سيفتح باب انقسام داخلي كبير، لكونه سيشكّل اختباراً للفريق الذي يحاذر إغضاب الأميركيين، لأن عليه أن يحسم قراره: إما التمسك بالمصلحة اللبنانية أو السير بما تطلبه الولايات المتحدة تحت التهديد».
حتى الآن لم يخرج أي جواب لبناني رسمي على هذا التطوّر، لكن مصادر بارزة في 8 آذار أكدت أن «الملف كانَ وسيبقى في عهدة الرئيس بري، وأن أهمية واستراتيجية الترسيم بالنسبة إلى المقاومة تمنعان أي مساومة أو تنازل أو تردّد»، كما أن «الحرب التي تقودها الولايات المتحدة بثوب الاقتصاد لن تنفَع لإجبار لبنان على الاستسلام للشروط الإسرائيليّة لناحية ترسيم الحدود البحريّة والبريّة».