باغتت جائحة كورونا التعليم العالي. ساد التخبط التعليم والامتحانات عن بعد في كثير من الجامعات التي لم تستطع أن تنهي العام الدراسي على نحو مرضٍ. البعض ذهب إلى تقييم تجربة «التعليم عن بعد» (e- learning) على مستوى المؤسسة الجامعية نفسها، لكن ليس على المستوى الوطني، في بلد تحكمه منظومة فساد تنسحب على هذا القطاع.وقد تصدّر «التعليم عن بعد» اهتمام لجنة التربية النيابية التي حضر على طاولتها إقتراحا قانونين، الأول قدّمه النائب ادغار طرابلسي منذ عام 2019، ويهدف إلى تشريع التعليم عن بعد، كـ«نظام تعليم دائم يحاكي التطور التربوي العالمي والعربي»، والثاني أعدّته النائبة بهية الحريري استثنائياً لتنظيم «التدريس عن بعد» في حالات الضرورة فقط، ويُطبّق عند تثبت السلطات المختصة من مدى تحقق إحدى هذه الحالات ويتوقف عند انتفائها، وهو يشمل التدريس والامتحانات عن بعد، وينحصر بالجامعات المرخصة في لبنان.
المؤكد أنّ «التعليم عن بعد» بات أمراً واقعاً. لكن تبنيه على نحو جزئي أو على نطاق واسع يحتاج، بحسب الباحث في الشؤون التربوية هنري العويط، إلى نقاش علمي هادئ. إذ أن «تشريع هذا النمط من التعليم مطلوب، لكن مع الأخذ في الاعتبار الجانب التربوي المتعلق بإعادة النظر في المناهج وتدريب المعلمين والعدالة في ايصال التعليم إلى كل الطلاب». والأهم، أنه «يتطلب المزيد من التنبه والرقابة. إذ لا يمكن اسقاط منظومة متكاملة للتعليم عن بعد في بلد ما كما هي على مؤسسات التعليم العالي في لبنان التي تحكمها ثقافة وتنظيم مختلفان». لكن «خوض التجربة والمسار لا مفر منه، مع توسيع نطاق التشاور ليشمل جميع الخبراء المعنيين، ومن دون تسرع».
وكان اقتراح طرابلسي طرح تعديل قانون التعليم العالي 285 /2014 عبر اعتبار المؤسسات التي تعنى بالتعليم عن بعد بشكل كامل أو جزئي، محلية أو خارجية، مؤسسات تعليم عال ويخضعها لأحكامه، كما يتطرق إلى معادلة الشهادات المحصلة من جامعات خارجية تعنى بالتعليم عن بعد. وبحسب مصادر نيابية، فإن الاشكالية التي سادت النقاش داخل لجنة التربية هي أن أي تسرع في تشريع دائم لهذا النوع من التعليم في غير مكانه، نظراً لمنظومة الفساد والصفقات التي تحكم التعليم العالي في لبنان لجهة فوضى الترخيص للجامعات والتسجيل الوهمي للطلاب وتزوير الشهادات. وقد أثار الاقتراح أسئلة كثيرة حول الآليات الرقابية على هذا التعليم وشرعيته والامتحانات والكادر البشري والمناهج والشروط التي يجب توافرها لمعادلة الشهادات التي تمنح من الجامعات من الخارج، وحتمية تعديل مجموعة من قوانين التعليم العالي.
عميد شؤون الطلاب في جامعة بيروت العربية صبحي أبو شاهين تحدث عن «حاجة ماسة لشرعنة هذا التعليم نتيجة استمرار أزمة كورونا، شرط وضع معايير جودة». ولفت الى أن البنى التحتية غير جاهزة حتى الآن للانتقال إلى هذا النوع من التعليم، مشيراً الى امكان اعتماد «التعليم المدمج» (blended learning) القائم على 50% تعليماً حضورياً في قاعات الدراسة و50% تعليماً عن بعد، «وهو ما قد يحل أزمة الامتحانات التي يمكن أن تجرى حضورياً، بعدما بيّنت التجربة عدم امكان ضبطها حتى في وجود الكاميرات». فيما اعتبرت رئيسة مركز الدراسات اللبنانية، مهى شعيب، أن الانتقال كلياً إلى التعليم الالكتروني ليس ممكناً في ظل التكنولوجيا المتدنية. ورأت أن «التجربة لم تكن مشجعة. إذ غاب التفاعل بين الأساتذة والطلاب، وجرى الاعتماد على الكم المعرفي والحفظ على حساب النقاش والتحليل، وازدادت اللامساواة في التعليم، وارتفع منسوب التنمر لا سيما بحق الأساتذة. أما التقييم فلم يكن دقيقاً وشابه الغش».
الانتقال كلياً إلى التعليم الالكتروني ليس ممكناً في ظل التكنولوجيا المتدنية


الأستاذة في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، سابين الكيك، رأت بدورها أنه لا يمكن طرح خطة استراتيجية لهذا التعليم قبل تقييم التجربة الأخيرة. و«ثمة حاجة لمعرفة أداء الطلاب والأساتذة وانطباع المجتمع الأكاديمي، والأمر يحتاج إلى رويّة ولا يستدعي العجلة». وسألت: «هل الظروف مناسبة لطرح الموضوع، وهل هناك بلد في العالم انتقل كلياً إلى التعليم عن بعد؟ وماذا عن كلفة هذا التعليم؟». وشدّدت على أن «قطاع التعليم يبنى بالثقة مع المعنيين من طلاب وأساتذة وأهال، ويفترض أن تكون البنية النفسية والاجتماعية والبنية التحتية مؤهلة لذلك»، لافتة إلى أن الانتقال الكلي إلى هذا التعليم «يلغي التفاعل داخل المجتمع الأكاديمي والمساحة المشتركة التي يوفرها حرم الجامعة».
وقد انبثقت لجنة فرعية عن لجنة التربية برئاسة النائب محمد الحجار تبنت الحل المؤقت الذي اقترحته الحريري مع حذف كل ما له صفة الديمومة في الاقتراح. وقال الحجار لـ «الأخبار» إن هذه «طريقة تعليم جديدة لها شروطها ومستلزماتها التي ينبغي مراعاتها لتأمين استمراريتها. وقد دعينا إلى اللجنة مجموعة من الخبراء في التعليم العالي، ونعمل على تجميع القوانين العالمية المتعلقة بهذه المسألة لنستوحي منها».