في آذار عام 2006 عقدت أول طاولة حوار بناءً على دعوة أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري في كانون الأول عام 2005، لجمع الأقطاب السياسيين لحوار موسع في ساحة النجمة. بعد 14 عاماً يتولى بري نفسه دعوة القوى السياسية لحوار موسع، لكن في قصر بعبدا، وإن كانت الدعوات قد وجّهت باسم رئاسة الجمهورية. مواكبون للحوار الأول والثاني يطرحون أوجه شبه كثيرة بين العناوين والجوّ السياسي الذي رافق الطاولة الأولى ويرافق الثانية، في انتظار بلورة أكثر لعناوينها المعلنة ومن يلبيها.في الفكرة العامة، انبثق الحوار الأول من الظروف التي عاشها لبنان بعد مرحلة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ووقوع سلسلة اغتيالات أخرى وخروج الجيش السوري من لبنان، ومقاطعة رئيس الجمهورية العماد إميل لحود والانقسام الحاد بين فريقَي 8 و14 آذار وبدء حملة تطويق حزب الله داخلياً ودولياً. وحدد بري عناوينه العامة: اغتيال الحريري والمحكمة الدولية، القرار 1559، العلاقات اللبنانية ــــ السورية وما يترافق معها من مزارع شبعا وسلاح المقاومة. تفرعت العناوين يومها الى سلاح الفلسطينيين وترسيم الحدود مع سوريا. لكن الحوار الذي انتهى بالاتفاق على عناوين جمع سلاح الفلسطينيين خارج المخيمات وترسيم الحدود والحقيقة في اغتيال الحريري، كان كلامياً فحسب. فالمحكمة الدولية شكّلت لاحقاً عنوان انقسام وترحيل لحكومة الرئيس سعد الحريري، فيما ترسيم الحدود لم يترجم عملياً، وسحب السلاح الفلسطيني خارج المخيمات بقي من دون تنفيذ، وعُلِّق مجدداً الكلام على 1559. لكن نتيجة الحوار في تلك المرحلة أنه شكّل، بحسب معارضي حزب الله، مظلة حماية للحزب، في ظل الانقسام الداخلي والرفض الدولي لتصاعد دوره والنظر إليه من الوجهة السلبية، فضلاً عن سحب التشنج السني ــــ الشيعي الذي أعقب مرحلة اغتيال الحريري ومن ثم الانقسام الحادّ بين 8 و14 آذار. انتهى الحوار بعدما أرجئ مرات عدة وأطاحت حرب تموز 2006 كل مفاعيله.
تنبثق فكرة الحوار اليوم من الجو الضاغط نفسه. فلبنان وإن كان لا يعيش على وقع التفجيرات والاغتيالات، إلا أنه يعيش حرباً مالية واقتصادية، ستكون كلفتها عليه غالية أيضاً. كذلك فإنه يتعرض لحملة تضييق دولية ناتجة من طرح متجدد لتغيير مهمة قوات اليونيفيل وترسيم الحدود وإعادة طرح القرار 1559 على بساط البحث، إضافة الى العقوبات على حزب الله التصاعدية ومعها الشق المتعلق بلبنان في قانون قيصر. هذا الحصار الاقتصادي والسياسي، المعطوف على أداء السلطة السياسية والمصرفية السيئ، من شأنه أن يؤدي الى سيناريو أكثر سوداوية مما جرى بعد 2005. وإذا كانت عناوين 2006 ليست مطروحة بوضوح في هذا الحوار، إلا أنها تبقى في خلفية المشهد السياسي مع تظهيرها في التحركات الدولية تجاه لبنان والضغط عليه وعلى حزب الله. وهذا يعني أن الحوار يتطلب تغطية لموقف الحكم الذي بات اليوم أقرب الى اللون الواحد، في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وشروطهم التي تترجم بالسياسة والاقتصاد وإطار محاصرة حزب الله، وزيادة شروط صندوق النقد. وهذا يضع المشاركين أمام أجندتَين: محلية وإقليمية. لأنه لا يمكن فهم أبعاد هذه الدعوة وتحوّل عين التينة وبيت الوسط إلى مركزَي استقطاب حول الدعوة، في حين أن بعبدا آخر من يدخل على خط الاتصالات، من دون أخذ العامل المحلي، والشخصي، أيضاً في الاعتبار.
كل ما عدا التضامن الداخلي في وجه العاصفة الدولية، سيكون صورة تذكارية لأقطاب الانهيار

صحيح أن عون سيستقبل المتحاورين، وهو الذي كان واحداً منهم عام 2006، لكن المبادرة ليست في يده، تماماً كما كانت الحال خلال رئاسة لحود الذي ظل شاهداً على حوار جرى في ساحة النجمة وكانت رئاسته واختيار خلف له أحد مواضيع النقاش. والنقطة الثانية هي في موقع رئيس الحكومة حسان دياب من معادلة الحوار، بين أقطاب سياسيين لا يجاريهم في حيثيّتهم في القرار السياسي والشعبي. وصحيح أيضاً أن هناك معارضة وموالاة حالياً، لكن المعارضة ليست على القدر نفسه من التوافق الذي كان سابقاً. فالحريري على خلاف تام مع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وهو وجنبلاط على تنسيق تام مع بري ومع حزب الله، وإن كانا على خصومة مع عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، كما كانت حالهما في عام 2006، وفي خلفية الصورة دائماً هاجس عودة الحريري إلى السرايا الحكومية. ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية يقف إلى جانب حزب الله وبري، لكنه يضع الحريري في منزلة مناقضة تماماً لمنزلة عون وباسيل، ويتعامل معه لا كصديق بل أيضاً كصديق أصدقائه في عين التينة والحزب معاً.
في عام 2006، كان الاهتمام العربي والغربي بلبنان واضحاً، رغم كل الملاحظات والتشرذمات، وترجم في المساهمة في الإحاطة بالحوار وما تلا حرب تموز. اليوم، لا يحظى أي حوار داخلي باهتمام دولي أو عربي، لا بل العكس تماماً، لأن السيناريوات المرسومة في التضييق على لبنان أكثر حدة. كل ما سيكون عليه الحوار في ظل المأزق المالي والاقتصادي استنساخ تجربة انتهت بالفشل وأعقبتها حرب مدمرة، بغية تأمين تضامن داخلي في وجه العاصفة الدولية. ما عدا ذلك، يكون عبارة عن صورة تذكارية لأقطاب الانهيار.